الخميس 2 مايو 2024
كتاب الرأي

عبد القهار الحجاري:بؤس العمل الثقافي وسبل الممانعة

عبد القهار الحجاري:بؤس العمل الثقافي وسبل الممانعة

 يشهد الحقل الثقافي بالمغرب في السنوات الأخيرة تدهورا كبيرا إن على مستوى الإبداع والتنظير أو على مستوى الاشتغال الثقافي للمجتمع المدني، وبالرغم من ازدحام الساحة الرسمية والجمعوية بالتظاهرات الثقافية الكبرى حجما وشكلا كالمهرجانات والمعارض والندوات... لكنها تبقى أنشطة ضحلة مضمونا ونوعا، وبالرغم كذلك من حجم الإصدارات والمنشورات المختلفة، فإنها لا تعبر بالضرورة عن تطور نوعي للثقافة، إذ صار العمل الجمعوي يخضع لسيطرة الريع الثقافي الذي يتحكم اليوم في رسم ملامح باهتة للثقافة ووضع صورة ماكيافيلية للمثقف، ولم أجد توصيفا لهذه الحالة الثقافية المزرية غير البؤس الثقافي، وهي حالة تتطلب تكثيف الجهود لبلورة تصور جماعي حول آفاق الثقافة، وسبل الممانعة والمجابهة لظاهرة الفساد المستشرية في الجسم الثقافي ببلادنا.

خسيء وهج الفكر التنويري عندنا، وعاد التحجر بقوة غير مسبوقة، ومنذ مدة تخلى المجتمع المغربي عن الإرهاص بفرز وتشكيل إنتلجينسيا يرتكز العمل الثقافي إلى إنتاجها الفكري وتجربتها الميدانية في الربط الخلاق بين الفكري والثقافي والسياسي، وخبت شرارة الوعي الثاقب التي قدحتها النقاشات العميقة لسنوات بل لعقود، وقد ترسخت كتقليد متقدم لدى النخبة لزمن ليس باليسير، وما لبثت أن ضاعت تلك الشرارة في حلك الدياجي، إذ دخلنا عتمة حادة لا تبشر بخير، فأصبحت ثقافتنا الوطنية من دون ملامح، هلامية، هجينة، فجة، مستلبة، تعاني من إغتراب مقيت في الزمان والمكان، اغتراب الزمان يزج بها في غياهب الماضوية المقيتة، واغتراب المكان شقت فيه قميصها زوابع التثاقف في غمرة العولمة المتوحشة، وفي خضم التيه التربوي الذي خلفه انسحاب الأسرة من التربية الثقافية وتدهور التعليم، فقُوى الجهل والتجهيل تخشى قبس الوعي، ومن ثم تخطط لاستدامة البؤس الثقافي كامتداد للبؤس الاقتصادي-الاجتماعي، كي لا يتناقض الوعي المتقدم الممكن مع الواقع المتأخر الكائن فيؤدي ذلك إلى احتدام الصراع الاجتماعي، ويوضع استقرار مصالحها الطبقية في الميزان، فانتقلنا من زمن الحصار السياسي للثقافة إلى زمن إفساد الحقل الثقافي.
لقد شهدت ثمانينيات القرن الماضي أقوى ضربات القمع المخزني للعمل الثقافي؛ لعل أكثرها إيلاما المنع الذي طال جملة مجموعة وازنة من المجلات الثقافية الممانعة الرصينة "الثقافة الجديدة" ، "البديل"، "الزمان المغربي"، "الجسور"، "المقدمة"، ولم تكن هذه المنابر تستفيد من تمويل الدولة ولا من أية جهة، وإنما كانت قائمة بفضل قرائها الشغوفين ومتتبعيها حين كانت القراءة وكان المد الثقافي والفكري نوعيا - لا كميا كما هو الحال عليه اليوم- ومعالم الحداثة العميقة كانت بدأت حينها ترسخ جذورها في تربة المجتمع المغربي الناشئ، وطفقت تتجاوز المظاهر الحياتية إلى الذهنيات، قبل أن تشرع قوى الظلام والرجعية في إنجاز إستراتيجية ثقافية باتت مدعومة رسميا قوامها اجتثاث جذور الحداثة، إذ كانت الجمعيات الثقافية الجادة - في نفس الفترة- محاصرة، معرضة للمنع في أية لحظة، ممنوعة في الغالب من الدعم المالي وممنوعة في أحيان كثيرة حتى من المنح الهزيلة للمجالس الجماعية؛ وفي مقابل ذلك كانت تغدق أموال طائلة على الجمعيات التي تفرخها الداخلية وتعطيها صفة المنفعة العامة، وكنا نسميها جمعيات السهول والوديان، ومع ذلك، كانت الثقافة المغربية جادة عميقة نيرة وذات إشعاع كسر كل الحدود التي رسمها القمع لها، وتعززت الممانعة ضد كل محاولات إفساد العمل الثقافي في غياب إستراتيجية ثقافية للدولة وعجز الطبقات السائدة عن الهيمنة الثقافية، لعدم امتلاكها نخبة حقيقية، وعدم امتلاكها لمشروع ثقافي ومجتمعي يمثل تطلعات برجوازية حقيقية نحو ليبرالية وطنية في ظل دولة مدنية حديثة.
وأمام هذا العجز عن الهيمنة الثقافية لا يجد المخزن سوى حلا واحدا هو القمع في زمن الاستقطاب الإيديولوجي أو إفساد الحقل الثقافي في زمن "ديمقراطية" الاستفراد المسماة عولمة وفي غياب الند العالمي لرأس المال المتوحش، وقد تعززت الممانعة ضد التدجين وبرز آنذاك شعار " الثقافة الوطنية الديمقراطية" كبوصلة موجهة للجمعيات الجادة، ذلك لأن الثقافة ارتبطت بهاجس التغيير، وعندما انفصلت عنه هانت وسقطت في شراك الريع والفساد، وأصبح العمل الثقافي يعاني من بؤس شديد، فطغى الكمي فيه على النوعي، وشابت الثقافة ضحالة بعدها الفكري وكرست تردد المجتمع وتذبذبه بين اختيار الحداثة أو الاستمرار في التقليد، وكرست استمرار التناقض بين هذين الاختيارين والجمع بينهما في تركيبة هجينة ملفقة، كما تطبع العمل الثقافي ملامح سلبية كثيرة منها ضبابية التصورات الثقافية وغياب الأرضيات والموجهات وطغيان العشوائية وسوء التخطيط وقصور في تحديد الأهداف وارتكازها على الذاتي الفرداني والفئوي بدل أن تبنى على الحاجات الثقافية الحقيقية المحلية والوطنية، وتهافت الكثير من الناشطين في المجتمع المدني وسباقهم نحو مكاسب ضيقة، فأصبحنا نلاحظ سيطرة انتهازية ثقافية خطيرة على الشراكات، ما يؤدي إلى ضعف العرض الثقافي وضحالة المردودية وطغيان الشكليات والبهرجة والمجاملات والعلاقات الزبونية وخفوت النقد الموضوعي وغياب النقد الذاتي..
في السابق كان العمل الثقافي الجمعوي يعاني من بعض الاختلالات الداخلية نتيجة للنزعة الهيمنية والحلقية الضيقة، لكن الهيمنة لم يكن محركها ذاتي، بل كان دافعها الأساس فكري- إديولوجي، يخضع لمنطق الاستقطاب ويغيب مبدأ قبول الاختلاف في أحيان كثيرة، أما اليوم فالنزوع نحو الهيمنة يتم انطلاقا من مجموعات ضغط تسعى إلى الاستفادة أكثر من الامتيازات والربع الثقافي وأصبحت مصداقية العمل الثقافي في الميزان، ذهنيات الهيمنة ورفض الاختلاف وأساليب الكولسة والإقصاء والإنزال والنسف وغيرها كثير اتخذت في زمن إفساد الثقافة حجما بارزا كعناوين لمرحلة تشهد على فشل الدولة في بناء ثقافة وطنية قوية من شأنها أن تجابه بجدارة كل أشكال التنميط والمسخ الوافدة بلا
رقيب أوحسيب في زمن عولمة النمط الرأسمالي المتوحش، كما تشهد على عجز المثقف وسقوطه في حمأة البؤس الثقافي.
مرحلة إفساد الحقل الثقافي ستطول ما لم يتحقق وعي عميق بخطورتها على الأجيال القادمة، إن الثقافة المعولمة المتبناة رسميا في واقع ضعف الثقافة الوطنية تهدف إلى صناعة أجيال تافهة شكلية مسطحة لا تفكر ولا تطرح السؤال ولا تملك اختيارات عميقة، ولذلك تم إضعاف حقول التربية والتعليم والثقافة، ويجري إفساد العمل الثقافي، ويساهم المثقفون في كل ذلك بوعي ومن دون وعي أيضا، ومسؤوليتنا كبيرة في بناء روافع للممانعة والمقاومة وتأسيس بدائل حقيقية للبهرجة وللعمل الثقافي المسيح المرتكز إلى الريع والفساد.
إن كل حركة احتجاجية ثقافية تسارع إلى خلق إطار جديد لن تفلح في خدمة أهداف تغيير الحقل الثقافي نحو الأحسن، وهي تفتقر إلى تصور واضح يضع خطا أحمر فاصلا بينها والفساد الثقافي، والحاجة الآن ليست إلى إطار على وجه الاستعجال، بل إلى الوعي بجسامة وخطورة الفساد حين يأتي من الثقافة والمثقف، وإذا كنا سنسلك نفس المسلكيات ونعيد إنتاج نفس الممارسات التي ننتقد، فلنذهب من الآن إلى حال سبيلنا ولنسلم بموت والثقافة والمثقف.
إن الحاجة الملحة الآن هي الاشتغال على نقد الفساد في الحقل الثقافي ومن غير استكانة ولا هوادة ولا توقف، النقد وحده كفيل بفرز مواقف المثقفين إزاء تدهور الثقافة والعمل الثقافي، ومن العبث الانسحاب والركون إلى السلبية، كما لا يمكن الانخراط في فعل يفضي في النهاية إلى المصالحة مع الفساد وشرعنته.
لكن هذا النقد لا يكون فعالا إلا ضمن إطار قوى وفاعل يضطلع أولا بمهمة إنضاج الشروط الفكرية لبلورة وعي جماعي يؤسس لقطيعة نهائية مع ذهنيات العمل الثقافي الواقعة تحت رحمة الريع والفساد والماكيافيلية، ثم يتكفل ثانيا بتنسيق جهود الجمعيات والفعاليات الثقافية للمساهمة في تقوية الحركة التصحيحية للعمل الثقافي.