"العدالة ليست أن يتساوى الناس في الأخذ، بل أن يتكافؤوا في العطاء." – أرسطو
بعد عرض وزير التعليم العالي عز الدين الميداوي أمام اللجنة البرلمانية لمقترح فرض مساهمة مالية محدودة على الموظفين الراغبين في متابعة دراساتهم العليا، عاد النقاش حول مجانية التعليم إلى واجهة الجدل العمومي. غير أن جوهر الإصلاح لا يتعلق بإلغاء المجانية، بل بإعادة ضبطها في إطار عدالةٍ تشاركية توازن بين الحق والمسؤولية. فوجب التوضيح من أجل تقريب الصورة وتصحيح المفاهيم وصولًا إلى تلطيف المواقف وربما مراجعتها.
إصلاح التعليم العالي… نقاش يتجاوز الشعار
يشهد المغرب منذ أسابيع نقاشًا واسعًا حول إصلاح منظومة التعليم العالي، وقد احتد هذا الجدل بعد طرح مقترحٍ جديد يسمح للموظفين والأجراء بمتابعة دراساتهم الجامعية المؤطرة رسميًا مقابل أداء رسوم محدودة، مع الاعتراف الأكاديمي بالدبلوم المحصل عليه (ماستر أو دكتوراه). وقد أوضح الوزير أن هذا التوجه لا يمس مجانية التعليم، بل يندرج ضمن رؤية واقعية تجعل من العدالة والمشاركة أساسًا للاستدامة. فالمجانية – كما قال – تظل مبدأً دستوريًا في التعليم الأساسي، بينما التكوينات الخاصة بالمهنيين هي خدمات إضافية يمكن تنظيمها بمساهمات رمزية تضمن استمرارية الجودة وعدالة الولوج.
تحديد المفاهيم شرط لتجاوز الالتباس
ظلّ الجدل حول مجانية التعليم العالي في المغرب رهين تصوّرٍ تبسيطي يخلط بين المجانية المطلقة والمسؤولية المشتركة. فكل حديثٍ عن مساهمة مالية يُصوَّر على أنه تهديد لمبدأ المجانية أو مقدمة لخوصصة التعليم. غير أن الدستور المغربي، في فصله الحادي والثلاثين، ينص على أن الدولة تعمل على تعبئة الوسائل لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين من التعليم، دون أن يمنعها من تنظيم أشكال تلك الاستفادة أو إقرار مساهماتٍ مبرّرة في بعض الخدمات الجامعية.
فالمجانية، في جوهرها، ليست نفياً لأي مقابل، بل أداة لتحقيق العدالة التعليمية. إنها تعني أن التعليم الأساسي متاح للجميع دون رسوم، لكنها لا تمنع الدولة من إحداث تكوينات أكاديمية إضافية موجهة لفئاتٍ عاملة قادرة على المساهمة في تكاليف التأطير والتجهيز. إن تصحيح هذا المفهوم لا يُضعف المجانية، بل يحميها من الفوضى وسوء التأويل.
في الحاجة إلى ضوابط مصاحبة
لنكن واضحين ومتفقين أن التكوينات الجامعية خارج أوقات الدراسة العادية، لا تمس مجانية التعليم النظامي، بل تستهدف فئة محددة من المستفيدين ذوي الدخل القار والطامحين في تحسين مستواهم التعليمي أو الرفع من قدراتهم المهنية، في مقابل دفع مساهمة مالية محدودة وتشاركية لضمان جودة واستدامة هذا التكوين. لكن ما ينبغي الانتباه إليه هو الحاجة لوضع تدابير وضوابط مصاحبة تقلل من مخاطر التنفيذ المنفلت على جودة التعليم وعدالة الولوج إليه، ولا سيما عدم الاخلال بالتوازن المطلوب بين التعليم النظامي والتعليم خارج أوقات الدراسة وتفادي التمييز في تحديد التكاليف المالية، واحترام الشروط البيداغوجية المرعية بما فيها طرق وآليات قياس الأداء.
المساهمة المحدودة... حماية للعدالة لا مساس بالمجانية
فرض مساهمة مالية محدودة على الموظفين الراغبين في متابعة دراساتهم العليا لا يتنافى مع مبدأ المجانية، لأن هؤلاء لا يُعتبرون طلبة نظاميين ضمن المسارات الجامعية المفتوحة بعد البكالوريا، بل مستفيدين من تكوين أكاديمي إضافي خارج الزمن البيداغوجي العادي. هذه التكوينات تتطلب موارد بشرية ولوجستية خاصة، ما يجعل المساهمة الرمزية صيغة منصفة توازن بين كلفة التأطير وقدرة المستفيد، وتحافظ في الوقت نفسه على الطابع العمومي للجامعة دون إثقال ميزانيتها.
إن الميزة الجوهرية في التوجه الجديد أنه يمنح دبلومات معترفًا بها رسميًا من طرف الدولة بنفس القيمة العلمية التي يحصل عليها الطلبة النظاميون، في مقابل مبالغ أقل بكثير مما كانت تتطلبه التكوينات السابقة المؤدى عنها في إطار التكوين المستمر بدون دبلومات معترف بها رسميا، مما يجعلها أكثر عدالة وفاعلية.
العدالة التشاركية بديلاً عن المساواة الشكلية
العدالة ليست مساواة شكلية، بل توازن بين الحقوق والواجبات. فمن غير العادل أن يستفيد موظف ذو دخل قار من تكوين جامعي خاص دون أن يُسهم في تكلفته، كما لا يجوز حرمانه منه بدعوى أنه "ليس مجانيًا". الحل في العدالة التشاركية، التي تجعل الأطراف الثلاثة شريكة في البناء: الدولة تضع الإطار القانوني والمؤسساتي، الجامعة تنظّم وتؤطر، والمستفيد يساهم في حدود معقولة. بهذه الصيغة تُصان المجانية للطلبة النظاميين، وتُتاح فرص التكوين الأكاديمي للمهنيين في إطار من الإنصاف والتوازن.
نحو جامعة عمومية منصفة ومستدامة
الجامعة العمومية ليست مجرد فضاء للتلقين، بل مؤسسة وطنية تجسّد قيم العدالة والمعرفة والانفتاح. تنظيم تكوينات أكاديمية موجهة للمهنيين بمساهمات رمزية يقوي الجامعة من حيث الاستدامة المالية والنجاعة البيداغوجية، ويتيح تثمين جهود الأساتذة الذين يخصّصون وقتًا إضافيًا للتأطير خارج مهامهم الرسمية. مفهوم المجانية في القرن الحادي والعشرين لم يعد يعني غياب الرسوم، بل ضمان الولوج المنصف إلى المعرفة وتوزيع التكلفة بعدالة.
ختامًا: من شعار المجانية إلى الوعي بالعدالة
حين تتحول المجانية من شعارٍ جامد إلى وعيٍ بالمسؤولية والإنصاف، يصبح التعليم الجامعي جسرًا نحو العدالة الاجتماعية لا عبئًا على الدولة. النقاش الحقيقي ليس حول المال، بل حول القيمة والعدالة: هل نريد مجانية شكلية تُرهق الجامعة وتحد من طموحها، أم مجانية مسؤولة تشرك الجميع في بنائها؟ الطريق الواضح هو ترسيخ العدالة التشاركية التي تحفظ الحق وتُكرّس المساهمة، وتجعل من الجامعة المغربية نموذجًا للمرفق العمومي النزيه، المنفتح، والمستدام.
محمد براو، الباحث والخبير الدولي في الحكامة
