الخميس 28 مارس 2024
خارج الحدود

عبد السلام انويكًة: القدس الشريف وفلسطين بعيون تاريخية ودبلوماسية مغربية

عبد السلام انويكًة: القدس الشريف وفلسطين بعيون تاريخية ودبلوماسية مغربية يقع المسجد الأقصى داخل البلدة القديمة بالقدس الشريف

لعل القدس الشريف المحاط بالجبال من كل جانب مع سور عظيم لا يزال قائما، كان السلطان سليمان القانوني العثماني أول من بناه منذ سنة ألف وخمسمائة وستة وثلاثين ميلادية، سور دام بناءه خمس سنوات وهو يضم أربعة وعشرين برجا وسبعة أبوات منها باب المغاربة. لعل حول القدس هذه أجمعت الأثار والكتب وأيدتها الكتب السماوية أنها كانت عربية قبل الاسلام والمسيحية واليهودية، وكانت مملكة لقبائل عربية كنعانية ثم يبوسية والتي منها اشتقت اسمها الأول "يبوس" حوالي ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد. علما أن المدينة تعاقب على غزوها الفراعنة والعبرانيون والآشوريون والبابليون والفارسيون واليونانيون والرومانيون والعرب والمسلمون والصليبيون، لتعود للاسلام ثانية على عهد الايوبيين والمماليك والأتراك، ثم فيما بعد الأنجليز ثم العرب قبل احتلالها سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين. وعليه، كل الحفريات أبانت أن بيت المقدس لا يعود تاريخه لنبي الله داود الذي عاش منذ ثلاثة آلاف سنة، بل أبعد من ذلك الى الألف الخامسة قبل الميلاد من خلال قبائل كنعانية هاجرت لفلسطين من شبه الجزيرة العربية، وبسبب ما تعرضت له القدس من غزو كانت دوماً تهدم لكن أهلها ظلوا عرباً كنعانيين في أغلبهم. مع أهمية الاشارة لِما كان للاسلام والمسلمين الذين ظلوا بالقدس منذ ستمائة وثمانية وثلاثين ميلادية، من موقف في بيت المقدس تجاه الطارئين عليه من أثر قوي في ابراز قيم تسامح وتعايش.

وغير خاف ما للقدس الشريف من رمزية خاصة لدى الانسانية جمعاء، ولا جدال فيما للمكان من قدسية لدى المسلمين حيث الأقصى أولى القبلتين ومسرى النبي محمد (ص). ومن ثمة تعلقهم بالمكان وشعورهم بواجب حمايته مما يتعرض له من طمس معالم وآثار ومن ثمة ذاكرة، علما أن المكان هو بأهمية خاصة كأرض سلام وحوار ثقافات وحضارات وملتقى ايمان. فالقدس عند المسلمين عهد وعقيدة وهي لديهم ليست مدينة عادية استهدفت بالاحتلال بل موقع ومجمع قداسات وملتقى رسالات وموضع مقامات، ومهما كان من شتات يخص أمة الاسلام فهي تلتقي وتجتمع حول القدس باعتبارها منارة هداية من أجل وحدة كلمة وصف ولعل هذا من كرامات البيت الشريف.

وغير خاف أيضاً ما احيطت به القدس من دراسات على أكثر من مستوى هنا وهناك بين شرق وغرب، وكان المغاربة بدورهم ومن خلالهم بلاد الغرب الاسلامي باسهامات صوب المكان منذ اعتناقهم الاسلام وعبر ما كانوا عليه من مرور بالمدينة صوب الحج وثالث الحرمين. ويسجل أن من أعلام المغرب ممن عرج على بيت المقدس منذ القدم، نجد عن العصر الوسيط مثلاً القاضي عبد الله بن العرب الذي عاش خلال فترة دولة المرابطين، وكان قد توجه اليها نهاية القرن الحادي عشر الميلادي في سفارة لدى الخليفة المستنصر العباسي من قِبل السلطان يوسف ابن تاشفين وفق ما ذكره ابن خلدون. ولم يقتصر عبد الله بن العرب على وصف المسجد الأقصى، بل ما كان هناك من نقاش فكري بين اطياف الفترة من معتزلة وكرامية ومشبهة ويهود.

ونجد عن زمن دولة الموحدين بالمغرب والغرب الاسلامي "الشريف الادريسي السبتي" خلال القرن الثاني عشر الميلادي، وهو شاهد عيان وصاحب موسوعة "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق"، الذي قارن فيه بين المسجد الأقصى ومسجد قرطبة مقدما وصفاً دقيقا لبيت المقدس، متحدثا عن الكنيسة العظمى"كنيسة القيامة"محج بلاد الروم في مشارق الأرض ومغاربها وعن البيت المقدس الذي بناه سليمان بن داود عليه السلام، ما تم تعظيمه بدخول المكان للاسلام والمسمى بالمسجد الأقصى عند المسلمين، الذي تتوسطه قبة عظيمة هي قبة الصخرة المرصعة بالغص المذهب والأعمال الحسنة من بناء خلفاء المسلمين. وممن استحضر بيت المقدس من المغاربة خلال القرن الثالث عشر الميلادي، نذكر أبي اسحاق ابراهيم المكناسي من خلال مخطوطة له، كذا أبو عبد الله محمد المكناسي الذي رحل الى القدس وتوفي بها خلال أواسط القرن السالف الذكر.

أما ابن بطوطة الذي عاش زمن دولة بني مرين بالمغرب وهو صاحب أول رحلة في تاريخ البشرية، فقد وصل الى بيت المقدس نهاية الربع الأول من القرن الرابع عشر الميلادي قائلاً." ثم سرنا حتى وصنا الى مدينة غزة وهي أول بلاد الشام..كثيرة العمارة حسنة الأسواق بها المساجد العديدة..ثم سافرت الى القدس..ثالث المسجدين الشريفين في رتبة الفضل ومصعد رسول الله (ص) ومعرجه الى السماء والبلدة كبيرة مبنية بالصخر المنحوت، وكان الملك الصالح الفاضل صلاح الدين بن أيوب..لما فتح هذه المدينة هدم بعض أسوارها، ثم استنقض الملك الظاهر هدمه خوفاً أن يقصدها الروم فيتمنعوا بها." وعن المسجد الأقصى يقول:" هو من المساجد العجيبة الفائقة الحسن يقال أنه ليس على وجه الأرض مسجد أكبر منه .. والمسجد كله فضاء وغير مسقف الا المسجد الأقصى، فهو مسقف في النهاية من إحكام الفعل واتقان الصنعة ممون بالذهب والأصبغة الرائقة." أما عن قبة الصخرة فقد أورد:" هي أعجب المباني واتقنها وأغربها شكلاً، قد توفر حظها من المحاسن وأخذت من كل بديعة بطرف وهي قائمة على نشر في وسط المسجد يصعد اليها في درج رخام ولها أربعة أبواب، والدائر بها مفروش بالرخام أيضا محكم الصنعة..ورائق الصنعة ما يعجز الواصف واكثر ذلك مغشى بالذهب فهي تتلألأ أنوارا.. يحار بصر متأملها في محاسنها."

ومن مغاربة الفترة الذين سمحت رحلاتهم ببلوغ القدس، نجد العلامة عبد الرحمن ابن خلدون الذي رحل من المغرب الى مصر ومنها سمحت له ظروفه بزيارة بيت المقدس. ونذكر أيضا أبي عبد الله محمد بن الأزرق الغرناطي المالقي، وكان قد تولى القضاء بالقدس وتوفي بها أواخر القرن الخامس عشر الميلادي. وقد ظلت الرحلات المغربية قائمة صوب القدس الشريف كما يتبين من خلال مذكرات العلامة عبد الله المقري التي تتحدث عما كان له من علاقات بأعلام بيت المقدس، ومن خلال المقري الحفيد صاحب "نفح الطيب" الذي زار بيت المقدس نهاية العقد الثاني من القرن السابع عشر، حيث يقول" لما دخلت المسجد الأقصى وأبصرت بدائعه التي تستقصى بهرني جماله.. وسألت عن محل المعراج الشريف.. وشاهدت محلا أمَّ فيه (ص) الرسل الكرام". ومن الرحلات المغربية التي خصصت حيزاً هاما لبيت المقدس تلك التي قام بها أبي سالم عبد الله بن محمد العياشي، وكان قد قصدها عن طريق غزة بداية ستينات القرن السابع عشر حيث وصف المسجد الأقصى وصفاً دقيقا.

وعن الفترة الوسطى من زمن دولة العلويين أيام السلطان محمد بن عبد الله، نجد رحلة محمد بن عثمان المكناسي السفير والوزير الموسومة ب" احراز المعلى والرقيب في حج بيت الله الحرام وزيارة القدس الشريف والخليل والتبرك بقبر الحبيب". ولعل مما تحدث عنه هذا الأخير في رحلته أوقاف المغاربة بالقدس الشريف والتي منها من يعود الى بداية القرن الرابع عشر الميلادي، مثل وقف الشيخ عمر بن عبد النبي المغربي المصمودي في شأن تعمير زاوية المغاربة بالقدس الشريف ويتعلق الأمر بثلاث دور تقع بحارة المغاربة، وكان ما تم تحبيسه من قبل المصمودي لفائدة المحتاجين المغاربة سواء المقيمين بالقدس أو العابرين. وهناك عشرات الأوقاف التي تطوع بها محسنون مغاربة لفائدة القدس الشريف، مثلما يذكر أبي مدين شعيب بن أبي عبد الله محمد ابن أبي مدين شعيب المغربي دفين تلمسان المتوفي أواخر القرن الثاني عشر الميلادي وهو تلميذ سيدي حرازم.

وكان ابن عثمان المكناسي في حديثه عن طوائف القدس الدينية قد تحدث عن حضور مسيحي واسلامي دون ذكر أي شيء عن اليهود اللهم مقبرتهم، علما أن الامبراطور الروماني فسباسيانوس وبسبب مشاكل بينه وبين اليهود قرر القضاء عليهم بارسال ابنه تيتوس على رأس جيش كبير، ليتم تخريب أورشليم سنة سبعين ميلادية وإجلاء جميع اليهود منها، ولتظل القدس محرمة عليهم منذ هذا التاريخ الى غاية ظهور الاسلام واستيلاء عمر بن الخطاب عليها سنة ستمائة وسبعة وثلاثين ميلادية.

ولعل مما يسجل التاريخ من هبات المغاربة حماية لبيت المقدس، هو أنه لما سيطر النصاري على سواحل بلاد الشام أواخر الدولة العبيدية وملكوا معها بيت المقدس، ولما استولى صلاح الدين الايوبي على بلاد مصر والشام وافتتح القدس سنة خمسمائة وثلاثة وثمانين هجرية، ومام ما تعرض له من اجماع النصارى عليه من كل جهة معترضين أساطيله في البحر، بعث هذا الأخير طالبا دعم السلطان يعقوب المنصور الموحدي سنة خمسمائة وخمسة وثمانين هجرية، وهكذا جهز له اسطولاً منع به دخول النصاري بلاد الشام. ومعلوم أن هذا الاسطول لم يأخذ طريقه الى الشام دون جنود مدربين ومتطوعين ومجاهدين، هكذا التحق عدد من المغاربة ببلاد الشام منهم صناع وفقهاء وغيرهم. وعندما خلف الملك الأفضل والده صلاح الدين الايوبي وقَّف عام خمسمائة وتسعة وثمانين هجرية بقعة اعتاد المغاربة أن يجاروا عندها بيت المقدس وهي اقرب مكان للمسجد الأقصى، وقف هذا الملك هذا المكان على المغاربة ليسكنوا فيه وأنشأ لهم فيه مدرسة عرفت بالأفظلية نسبة للملك الأفضل.

وبعيداً عن العصر الوسيط وما حصل من هبة مغربية دعما للقدس الشريف، فقد هب شباب المغرب زمن الحماية الفرنسية خلال عشرينات القرن الماضي، لنصرة القضية الفلسطينية وحماية القدس كأول انتفاضة مغربية داعمة إثر ما تعرض له بيت المقدس من هدم من قبل اليهود بدعم من الأنجليز. هكذا تم إعداد عريضة احتجاج بفاس من قبل نخبة من شباب المدينة منهم علال الفاسي ومحمد الفاسي ومحمد بن الحسن الوزاني والحسن أبي عياد، وهكذا انتفتحت هذه العريضة على دوروب فاس وتجارها وصناعها في غفلة من ادارة الحماية آنذاك، الا الباشا البغدادي الذي تصدى للفكرة مطالبا أصحابها بالمثول أمامه برفقة الوثيقة وهو ما حصل. ورغم ما آلت اليه العملية فقد شكلت تجربة عكست درجة الوعي الوطني الاسلامي، علما أن نسخة من هذه العريضة ابلغها طلبة شمال افريقيا بباريز للسيد أمين الحسيني مفتي فلسطين لما زار بارير وكان ذلك من قبل محمد الفاسي. 

 دوما كان المسجد الأقصى ومن خلاله القدس الشريف وفلسطين ولا يزال بعناية مغربية خاصة منذ القدم، وكان السلطان محمد بن يوسف قد قام بزيارة تاريخية لبيت المقدس عام ألف وتسعمائة وستين بعد استقلال البلاد بفترة وجيزة، تعبيراً عن دعم المغرب ووقوف المغاربة الى جانب الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فضلاً عن هذا الحدث المعبر وفي اطار المعارك الدبلوماسية من اجل قضية فلسطين نستحضر رسالة كان قد توجه بها الراحل الملك الحسن الثاني الى البابا بولس السادس في فاتح يوليوز من سنة ألف وتسعمائة وسبعة وستين، رسالة تاريخية استهدف بها لفت انتباهه لبيت القدس ولِما أقدم عليه الاسرائيليون من عمل خطير به، لمَّا قاموا بإلحاق المدينة المقدسة بما سيطروا عليه في أرض فلسطين، ولمَّا انتهكوا حرماتها وداسوا مقدساتها واعتدوا على أهلها وحكامها الشرعيين. رسالة تضمنت ما حصل من مس بوضع ديني لبقاع مقدسة مع تذكير بما كان للمسلمين منذ قرون من رعاية لحرمة مواقع هي مهد سيدنا عيسى بن مريم ومسرى سيدنا محمد (ص)، رسالة بعد عدوان اسرائيلي آنذاك التمست من البابا توظيف قداسته ونفوذه الروحي والنظر في وضع بيت المقدس السياسي والديني، حفظاً ليس فقط لأمن وأمان قدسية مدينة إنما أساساً لسلام وسِلم إنسانية.

وحول موقف المغرب والمغاربة من قضية فلسطين من المفيد ختاما الوقوف على ما أورده الراحل الملك الحسن الثاني قبل عقود من الزمن، مثلما جاء في كلمة اختتام اعمال لجنة القدس نهاية سبعينات القرن الماضي:" في ذه المغاربة وغيرهم من العرب والمسلمين، لا يمكن حينما يذكر لفظ القدس الا يذكر لفظ فلسطين وحينما يذكر لفظ فلسطين تتشخص امام أعيننا تلك المأساة التي يعيشها اخوان لنا منذ جيل كامل، جيل ازداد وترعرع وشب في المنفى في الارهاب في الابعاد عن وطنه وبلده في مشاهدة الغير يتمتع بأرضه وخيراته..وكل من ذكر منا القدس وفلسطين لا يمكن في آن واحد الا أن يربط تلك الصورة بوعد صميم بالعمل المتوالي ليل نهار، حتى نرفع المظالم ويحرر بيت المقدس وحتى ترد الحقوق الى أهلها في فلسطين."

وفي محطة أخرى ضمن نفس الاطار الاسلامي لبيت المقدس أورد رحمه الله في كلمة ختامية:" اذا نحن نظرنا الى العمل الذي قامت به اسرائيل بعين المؤرخ الرصين والمحلل الموضوعي، نرى أن قرار الحكومة الاسرائيلية هو أول حفرة في قبر دولة اسرائيل، ذلك أنها هي المضطهدة وعلى الاضطهاد بنت كيانها واكتسبت من حلل العطف ما يقوي اليوم جانبها .. حفرت قبرها لأنها تظن أن الفوارق الموجودة بينها وبين الدول الاسلامية من الناحية التكنولوجية، ستبقى على ما هي عليه الى الأبد وهذا غلط، فكلما دارت عجلة التاريخ الا وتقلصت تلك الفوارق وكلما أصبح الصباح علينا الا وجيل يانع من ابنائنا عرب ومسلمون يدخل ساحات البحث والعلم والتنقيب، وأبشر اسرائيل أنه بعد بضع سنين سيصير المسلمون والعرب في مستوى مجابهة هذا التحدي وعلى ساحة الميدان."

عبد السلام انويكًة عضو مركز ابن بري للدراسات والأبحاث وحماية التراث