الجمعة 19 إبريل 2024
منبر أنفاس

عزيز لعـويسي: مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس

عزيز لعـويسي: مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس عزيز لعـويسي

ما يجري الآن من خلافات غير مسبوقة بين المغرب وجواره الأوربي، وخاصة مع ألمانيا والجارة الشمالية إسبانيا، يشبه بدرجات ومستويات مختلفة ما عاشه البلد طيلة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين من تنافس إمبريالي جارف قادته فرنسا وإسبانيا وألمانيا وبريطانيا، تباينت وسائله بين الضغط العسكري والدبلوماسي والتجاري، بكل ما رافق ذلك من مشاهد الإهانة والابتزاز والتحقير والاستفزازللمغاربة، ومن إصرار على عرقلة ما كان يتطلع إليه مغرب القرن التاسع عشر من إصلاحات كانت تعقد عليها الآمال لتخليص البلد من شر القوى الإمبريالية المتكالبة، التي دخلت - حينها - في تنافس شرس ومسعور، تم كبح جماحه باللجوء الاضطراري إلى إبرام اتفاقيات تسوية، عبدت الطريق أمام فرنسا وإسبانيا لبسط السيطرة على المغرب والشروع في استغلال ما يزخر به من خيرات، باستعمال كل أدوات العنف والبطش والإهانة والتجويع والتقتيل والنفي والترويع.

 

وإذا كان مغرب القرن19م ومطلع القرن 20م، لم يكن أمامه إلا القبول بسياسة الأمر الواقع والانصياع لعاصفة الإمبريالية الأوربية، لما كان عليه من ضعف عسكري وهوان سياسي وتواضع اقتصادي، فإن مغرب اليوم، وتحديدا مغرب محمد السادس، أدرك مبكرا ويدرك، أن الوقوف في وجه الأعداء ومجابهتهم، كان يقتضي الرهان على  أسلحة الإصلاح والتحديث والتنمية الشاملة، والرهان على دبلوماسية ناجعة ومتبصرة، تقوي القدرات وتمنح أدوات المواجهة والتحدي، وما حققه مغرب اليوم من ريادة اقتصادية وتنموية، ومن حضور وازن في العمق الإفريقي، ومن نجاحات دبلوماسية وأمنية واستراتيجية، كان من الضروري أن يزعج الأعداء ويخرجهم من جحورهم في الشرق كما في الشمال، ويرفع من منسوب سعارهم ونباحهم، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء الذي كشف الأصدقاء والأشقاء والأعداء والمناورين، لأنهم لم يتخلصوا من عقليتهم الإمبريالية الغارقة في الأنانية والتعالي والابتزاز، ولم يتقبلوا دولة جارة في الجنوب، وهي تخطو خطوات رصينة ومشروعة في سبيل تطوير قدراتها الذاتية بما يضمن إدراكها للتنمية والقوة والسيادة والكرامة.

 

المغرب تغير، لكن بعض بلدان الجوار الأوربي لم تدرك أن الجار الجنوبي تغير وأخذ يشتد ساعده، أو أنها لا تريد إدراك أن هذا الجار الذي كان ضعيفا خاضعا متحكما فيه زمن الاستعمار، قد تغير وغير اللعبة لصالحه وفرض قواعد لعب جديدة، فما قامت به ألمانيا وتقوم به من أعمال حقيرة تدخل في خانة العداء للمصالح العليا للوطن، وما قامت به الجارة إسبانيا وهي تستقبل "بن بطوش" زعيم مليشيات الوهم،في مؤامرة رخيصة تشتم منها "رائحة الغاز"،  لا يمكن أن توصف إلا بالفضيحة والجريمة والخطيئة الكبرى، وما صدر عن الاتحاد الأوربي من مواقف متضاربة عاكسة لحالة من الإبهام والارتباك والمناورة، تارة يميل إلى كفة إسبانيا المصابة بلعنة "بن بطوش" في أزمتها مع الرباط، بدل القيام بدور الوساطة وتذويب الخلاف القائم بين الطرفين، وأخرى يوسع حدود الاتحاد إلى مدينتي سبتة ومليليـة في انتهاك جسيم للتاريخ والجغرافيا، وثالثة يرفع يافطة الشراكة الاستراتيجية مع المغرب، كلها مواقف من ضمن أخـرى، حاملة  لأسلحة مفضوحة ورخيصة، كاشفة عن سوءة  حقيقة السياسة الأوربية نحو بلدان الجنوب وخاصة نحو بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط، والمبنية على أدوات التعالي والتحكم والابتزاز والمناورة، بشكل يجعلنا أمام  "إمبريالية جديدة" لاتجد حرجا في استعمال كل الأوراق ولو كانت قذرة وحقيرة كما فعلت إسبانيا، لنيل المزيد من المصالح وانتزاع الكثير من المكاسب، بشكل يمكنها من المحافظة على القدرات التي تسمح بممارسةالتحكم  والابتزاز والضغط والاستغلال، وفي نفس الآن، البقـاء على العهد مع ملكة قشتالة "إيزابيلا" الكاثوليكية، التي أوصت قبيل وفاتها بداية القـرن16م،  في أن "يكون المغرب بلدا مشتتا جاهلا فقيـرا ومريضا على الدوام والاستمرار".

 

ويكفي قولا أن قضية الصحراء المغربية ظلت طيلة عقود ولا تزال، قضية لابتزاز المغرب ولي ذراعه، لأغراض اقتصادية صرفة لم تعد تخفى على أحد، تحضر فيها عقلية التحكم والمصلحة والأنانية، ويبدو أن الكثير من دول الجوار ومنها إسبانيا، لاتريد حلا للنزاع المفتعل حول الصحراء، رغم أنها دولة استعمارية وعلى بينة من المعطيات التاريخية والحقائق الميدانية التي توثق لمغربية الصحراء، وتصر على نهج دبلوماسية "ازدواجية المواقف" بما يرضي أهواءها التاريخية ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية في المنطقة،ونضيف إليها ألمانيا التي باتت تتبنى مواقف أكثر عداء للمغرب ولمصالحه الاستراتيجية، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بمغربية الصحراء، وهو اعتراف أربك بدون شك حسابات برلين التي سحب منها البساط في المنطقة وخاصة في المغرب وفي صحرائه، ولم تجد أمامها سـوى  ممارسة الضغط والابتزاز  الرخيص  عبر الرهان على أوراق لعب قذرة وحقيرة، بل حتى الاتحاد الأوربي لازال يتبنى مواقف غامضة حيال تطورات القضية الوطنية، ولم تتحرك أية دولة من الاتحاد لحد الآن في اتجاه الانخراط في "دبلوماسية القنصليات"، ماعدا فتح مقر للحزب الحاكم بفرنسا بمدينة الداخلة، في انتظار موقف فرنسي حقيقي.

 

إسبانيا المتورطة في فضيحة "بن بطوش"، لم تفضح نفسها فقط وهي تستقبل فوق ترابها مجرما ملاحقا من قبل القضاء الإسبانيبجواز مزور حامل لهوية كاذبة، بطريقة أشبه بما تقوم به العصابات الخارجة عن سلطة القانون، بل وأساءت إلى صورتها كدولة يفترض أن تتصرف في إطار من المسؤولية والرزانة والتبصر ورجاحة العقل، كما أساءت إلى القيم الحقوقية والديمقراطية التي يقوم عليها الاتحاد الأوربي، وهي تنتهك حرمة القضاء وتتجاوز سلطة القانون وتمس مساسا جسيما بحقوق الإنسان وبمبادئ العدالة الجنائية وتغتصب حقوق الضحايا كما اغتصبها "بن بطوش الرخيص"، وبالتالي، فالجيران الإسبان، هم آخر من يمكنه التكلم عن "الإنسانية" أو "المسؤولية" أو "حقوق الإنسان" أو حتى "حسن الجوار"، وإذا كانت مدريد قد راهنت على ورقة "بن بطوش الرخيص" ومن خلالها على ورقة الغاز الجزائري، لاستفزاز الرباط والتمادي في سياسة العداء الناعم، فقد وضعتنا نحن المغاربة أمام خيارين اثنين لاثالث لهما، إما الاستمرار في تكريس واقع الخضوع والتنازل والدل والمهادنة، أو المرور إلى السرعة القصوى وما تفرضه من تصعيد ومجابهة ناعمة، بما يضمن وضع الخصوم عند حجمهم الطبيعي، في أفق التأسيس لعلاقات جديدة مبنية على التوازن والاحترام البناء وحسن الجوار.

 

دبلوماسية "الدق تم" التي يتبناها المغرب بنجاعة منذ واقعة الكركرات، كان من الضروري أن تستثمر ما وقع فيه الجار الإسباني من كبوة سياسية ودبلوماسية واستراتيجية وقضائية وحقوقية، ليس فقط، للرفع من وثيرة الضغط الدبلوماسي على مدريد، لفضح المؤامرة البطوشية الرخيصة التي دبرتها الحكومة الإسبانية بحقارة وسوء تقدير مع الأعداء الخالدين للوطن في بلاد بن بطوش، ولا للكشف عن سوءة المواقف الإسبانية الحاملة لمفردات العداء والابتزاز، ولكن أيضا، لوضع حد للسلوكات المتهورة لإسبانيا، التي تمادت في معاداة الوحدة الترابية للمملكة، بالانخراط في مهزلة استقبال من يرفع السلاح في وجه المغرب ويتبنى طرح الانفصال، بكل ما حمله ذلك من استفزاز لمشاعر كل المغاربة، ولم تتوقف عجلة الاستفزاز عند حدود الفضيحة "البطوشية" الكبرى، بل استمرت في الدوران بزيارة رئيس الحكومة الإسبانية للمدينتين المحتلتين في عز الأزمة مع الرباط، وبالقرار الفاقد للبوصلة الذي أصدرته وزارة الخارجية الإسبانية والذي أمهلت من خلاله السفيــرة المغربية لدى مدريد "كريمة بنيعـيش" مدة 30 دقيقة للحضور، في انتهاك واضح لكل الأعراف الدبلوماسية، مما استعجل اتخاذ قرار عودتها إلى الرباط على وجه السرعة، وبالحملات الإعلامية المسعورة التي انخرط فيها بعض الإعلام الإسباني، الذي لم يجد حرجا في مهاجمة المغرب والمساس برموزه ووحدته الترابية، في انتهاك صارخ لما تقتضيه الممارسة الإعلامية الرصينة من مهنية ورقي وأخلاق، بينما لم يعر هذا الإعلام الرخيص، أي اهتمام للفضيحة الكبرى التي وقعت فيها مدريد، وهي تستقبل بالأحضان من وراء حجاب، مجرما ملاحقا من قبل القضاء الإسباني، وباستعمال طريقة قذرة أشبه بعمل العصابات وقطاع الطرق.

 

مسرحية "محمد بن بطوش" بقدر ما كشفت عن سوءة الجارة الشمالية التي نزلت إلى مستوى قطاع الطرق والعصابات الإجرامية، وأبانت عمق عداء وحقد كابرانات بلاد بن بطوش، بقدر ما كشفت النقاب عن حقيقة الأعداء الذين يتربصون بالوطن في الشمال كما في الشرق، وإذا كانت الدبلوماسية المغربية قد انتقلت إلى مستويات عليا من الجرأة والحزم والمجابهة والتحـدي في علاقتها مع دول كإسبانيا وألمانيا، فقد اختارت النهج الصحيح، لوضع بعض الدول التي لازالت تحن إلى الماضي الإمبريالي عند حدها وحجمها الطبيعي، وجعلها تنتبــه إلى أن مغرب اليوم بات قوة إقليمية راهنت وتراهن على الرفع من  قدراتها الاقتصادية وتحسين مستوى تنميتها البشرية وتحصين وحدتها الترابية وتعزيز مصالحها الاستراتيجية، في إطار استراتيجية متبصرة تشكل قضية الصحراء المغربية خيطها الناظم، تتأسس على قيـم التشارك والتعاون والتعايش والصداقة والتضامن والأمن والوحدة الاستقرار وفق قاعدة "رابح .. رابح"، وأن تدرك أن هذا المغرب، لم يعد قادرا على تحمل "ازدواجية المواقف" ولا على تقبل التمـادي في ممارسات الاستفزاز والابتزاز.

 

الكرة الآن في ملعب الحكومة الإسبانية المتورطة في مؤامرة "بن بطــوش"، وهي مطالبة أولا بالتوقف عن لعبة التمويه والمغالطة والاستفزاز، وباستعجال اطلاع الرأي العام الإسباني والأوربي على ظروف وملابسات دخول زعيم مرتزقة البوليساريو الملاحق من قبل القضاء الإسباني، إلى الأراضي الإسبانية باستعمال جواز سفر مزور وبيانات كاذبة، وبالمانع أو الموانع التي جعلت القضاء الإسباني يتعامل مع القضية بنوع من التردد والفتور والتقاعـس دون أن يفعل آلية الاعتقال انسجاما وجسامة الجرائم المتورط فيها المعني بالأمر، كما هي مطالبة بالكشف عن من يقف - داخل الحكومة الإسبانية - وراء المؤامرة المفضوحة التي تم تنفيذها مع كابرانات بلاد "بن بطوش"، والتي بموجبها تمت التضحية بغباءبشريك استراتيجي من حجم المغرب، بل وبالشراكات الاقتصادية والأمنية والاستراتيجية الرابطة بين المغرب وإسبانيا، مقابل استقبال مجرم حرب يحمل السلاح ضد المغرب ويهدد وحدته وسلامة أراضيه، وقبل هذا وذاك، بالإجابة عن الاستفسارات التي وضعتها الرباط لتوضيح الموقف الإسباني بخصوص إيواء هذا المجرم، والتي قابلتها مدريد بالهروب إلى الأمام عبر التمادي في المغالطات والاستفزازات.

 

وإذا كانت الدبلوماسية المغربية قد أشهرت ورقة الهجرة غير النظامية في وجه الإسبان ومن خلالهم الاتحاد الأوربي، فهي ورقة أو رسالة عنوانها العريـض "كفى" .. كفى من ازدواجية المواقف" .. "كفى من المناورات والأنانية" .. "كفى من الابتزازات والاستفزازات".. "كفى من التصغير والتحقير" .. "كفى من المساس بالوحدة الترابية للمملكة" ... "كفى طعنا من الخلف"...، وهي عناوين من ضمن أخرى، موجهة إلى الاتحاد الأوربي الذي لازال يلعب "دور الكومبارس" فيما تعرفه قضية الصحراء المغربية من دينامية دبلوماسية غير مسبوقـة، كما هي موجهة إلى إسبانيا بشكل خاص، والتي يبدو أنها فقدت البوصلة تماما، وهي تتمــادى في ممارسة لعبة الاستفزاز الرخيص، دون استحضار لمبادئ حسن الجوار، ولا لما يربط البلدين الجارين من مصالح اقتصادية مشتركة، ودون تقدير تداعيات سياستها المتهورة وهي تضع يدها في يد جيـران السوء، على مستقبل العلاقات بين الرباط ومدريد وعلى أمن واستقرار المنطقة، وآن لها الأوان في أن تدرك، أن المغرب الذي أشهر ورقة الهجرة غير النظامية والتي أدخلت الحكومة الإسبانية في حالة من اللخبطة والارتباك والاستنفار، هو قادر على إشهار أوراق أخـرى ربما أكثر عمقا وأكثر إرباكا، ما لم تعد إلى رشدها، وتقطع مع عاداتها السيئـة، التي باتت أكثر حقارة وأكثر قذارة بعد التورط في الفضيحـة "البطوشية" التي كشفت عن سوءة "الإسبـان " أمام المغرب و أوربا والعالم.

 

في المجمل، فالحكومة الإسبانية في ورطة حقيقية، وما تورطت فيـه من فضيحـة، يسائل الدولة الإسبانية وقضائها "المستقل"، كما يسائل القيم الأوربيـة المشتركة التي باتت موضوع سؤال، وقبل هذا وذاك، يسائل المنظور الحقيقي الأوربي والإسباني أساسا للشراكـة مع الرباط،  ولابديل لها إلا بضبط سلوكها المتهور وتصرفها الأرعن، لأن أي سلوك أو تصرف غير مســؤول، لن يزيد العلاقات بين الرباط ومدريد، إلا تأزما وتعقيـدا، وبتطبيق القانون بخصوص قضية "بن بطوش"، بعيـدا عن الأهواء السياسية والمؤامرات الرخيصة، وهذا يعد المدخل الوحيـد للخروج من الورطة البطوشية وتذويب جليد الخلاف مع الرباط، أما الدبلوماسية المغربيـة، فلم تعد تقبل بأيـة "ازدواجية مواقف" من جانب الإسبـان أو غيرهم، وهي مستعدة للتصدي لكل المناورات القذرة من جانب أعداء الوطن بكل السبل الممكنة والمتاحة، وفي إطار من الحزم والجرأة والوضوح والمسؤولية، ومهما قيل أو يقال، فالعلاقات الدبلوماسيـة بين الرباط ومدريد توجد اليوم في وضع حرج بسبب "بن بطوش" الذي وضع مدريد في اختبار عسير إن لم نقل في مأزق صعب، تزداد صعوبتـه إذا ما استحضرنا أن المغامرة الإسبانية "غير محسوبة العواقب" حركها غاز بلاد "بن بطوش"، ومن أجل الغـاز البطوشي، أساءت الحكومة الإسبانية لصورتها وسمعتها  في أوربا والعالم، وانتهكت سلطة قضائها، ومست بالقيم الأوربيـة المشتركة، وأدخلت نفسها في زوبعـة من النقد والاحتجاج والمعارضة، وضحت بتهـور وغبـاء، بشريك استراتيجي وتاريخي من حجم المغرب، وكما تم تدبير مؤامرة إدخال المغضوب عليه "بن بطوش" إلى التراب الإسباني، يخشى أن يتم تدبير مؤامرة فــراره،قبل التاريخ المحدد له للمثول أمام القضاء الإسباني، وهذا أمر غير مستبعد من حكومة وضعت اليد في يد "آل بطوش".

 

ما يحدث الآن بين الرباط ومدريد من خلاف بسبب المؤامرة البطوشية القذرة، يظهر مدى تبصر الدبلوماسية المغربية، التي راهنت مبكرا على شركاء جدد خارج البيت الأوربي التقليدي، من قبيل الولايات المتحدة الأمريكية التي أربكت كل الحسابات والتوازنات وهي تعترف بمغربية الصحراء، وبريطانيا الخارجة من البيت الأوربي والتي تراهن بقوة على مد جسور الشراكة والتعاون مع الرباط، وشركاء آخرين في الشرق الأوسط وفي إفريقيا، وإذا كان المغرب غير اللهجة  والخطاب في طريقـة تعامله مع السلوكات المستفزة لبعض الدول الأوربيــة كإسبانيا وألمانيا، فلأنه تقـوى بفضل شراكاته الاقتصادية والاستراتيجية مع عدد من الأشقاء والأصدقاء وفق قاعدة "رابح .. رابح"، وعزز مواقفه، بفضل رهانه على قضايا التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية، مما أكسبه القدرة والشجاعة على مواجهة الأعداء والخصوم وفضح مناوراتهم الحقيرة وخططهم البئيسـة.

 

وما أحدثته الدبلوماسية المغربية من إزعاج وإرباك وفضح للحكومة الإسبانيـة المتورطة في مؤامرة "بن بطــوش"، ومن ارتدادات سياسية وإعلامية في الداخل الإسباني، وصلت تداعياتها إلى البيت الأوربي، معناه أن المغرب بات اليوم أقوى أكثر من أي وقت مضى، لأنه استثمر في سياسة الوضوح والمسؤولية مع الشركاء، وراهن بذكاء على تطوير قدراته الاقتصادية بدون نفط أو غـاز، والنتيجة المحققة التي يعترف بها الأعداء قبل الأصدقاء، ريادة عالمية في صناعة السيارات والطائرات، ونجاعة طاقية بالرهان على الطاقات المتجددة عبر مركب "نور ورززات" للطاقة الشمسية، الذي يعد واحدا من أكبر مشاريع الطاقة الشمسية في العالم، وحضور وازن في العمق الإفريقي كثاني مستثمر في إفريقيا، وعلاقات إنسانية وتضامنية وتنموية رائدة مع الأصدقاء الأفارقـة، توازيها علاقات بناءة ومثمرة مع الأشقاء العرب وخاصة في الخليج العربي، وقـوة فوسفاطية عالمية تحتضن أكبر احتياطي عالمي في الفوسفاط، وآفاق معدنيـة وطاقيـة واعدة، ستقلب كل الأرقام والحسابات في المنطقة، وبنيات تحتية مهمة وأوراش تنموية كبـرى في طليعتها مشروع الحماية الاجتماعية وما سيحمله النموذج التنموي المرتقب من برامج ومشاريع رائـدة، وقوة فلاحية وبحريـة لما يزخر به المجال المغربي من موارد وخيرات، وقـوة تجارية إقليمية، تراهن على سياسة الموانئ الكبرى للتموقع في صلب التجارة العالمية المتوسطية والأطلسيـة، وموقع استراتيجي جذاب يشكل نافذة أوربـا والعالم نحو الأسـواق الإفريقيـة الواعدة، وقوة بشرية نوعيـة آخذة في التشكل في ظل الرهان على تجويد التعليم والارتقـاء بمستوى التكوين المهني، وقـوة أمنية واستخباراتية رائدة عالميا، لايمكن لأوربا تجاهلها، وقوة دبلوماسية على جانب كبير من الدقة والتبصـر والمسؤولية، وقبل هذا وذاك، هو أرض للقـاء والمحبة والسلام والتعايش والصداقة والتعاون المشترك.

 

صحيح أننا نعاني كغيرنا من الدول من مشاكل تنموية اجتماعية بالأساس، لكن لابد أن ندرك أن ما تحقق خلال العقدين الأخيرين من مكاسب اقتصادية وتنموية واجتماعية ودبلوماسية، ومن أوراش كبرى ذات صلة بالبنيات التحتية، يستدعي التنويه والتثمين والاعتزاز والافتخار، بعيدا عن خطاب التشكيك والتيئيس والتبخيس، كما يستدعي المزيد من التعبئة الجماعية لكسب كل الرهانات التنموية الآنية والمستقبلية، والحزم في التصدي لكل الممارسات "غير المواطنة" التي تعرقل عجلة النهـوض والنماء، وبهذه المكاسب وغيرها، يقف المغرب وجها لوجه أمام دول كإسبانيا وألمانيا بجرأة وحزم وشجاعة ومسؤوليـة، ليقطع مع أساليب  العنصرية والتعالي والأنانية والتحقيـر والضغط والابتزاز، بشكل تتحقق معه أهداف الكرامة ومقاصد التوازن الاستراتيجي والاحترام المتبادل.

 

مغرب اليوم ليس هو مغرب الأمس، وهي حقيقة مزعجة للخصوم والأعداء، وما عليهم إلا تقبلها والاستئنـاس بها بروح رياضية، وإذا كانت الدبلوماسية المغربية قد جنحت نحو الحزم والتصعيد، فلأنها في حاجة إلى أصدقاء وجيران وشركـاء "حقيقيين" بدون نفاق ولا أقنعـة خادعة، وفي حاجة لبناء مفهوم جديد للشراكة مع إسبانيا ومع الجيران الأوربيين، مبنيـة على المسؤولية والشفافية والوضوح والمصداقية، في إطار رؤيـة للتعاون المشترك شاملة ومتكاملة، تراعي الوحدة الوطنية للمملكة ومبادئ حسـن الجوار، وندرك في هذا الإطار، أن إسبانيا الغارقة في وحل "بن بطوش" باتت أكثر حاجة لشريك استراتيجي مسؤول ومحترم من حجم المغرب، أكثر من حاجة المغرب إليها، وهي مدعوة أولا، لإيجاد مخرج حقيقي للفضيحة احتراما لسلطة القضاء ولحقوق الضحايا، ومدعوة ثانية لتوضيح موقفها الحقيقي من قضية الصحراء، وأمامها خياران لا ثالث لهما : إما القطع مع أوهام الاستعمار والانخراط في "دبلوماسية القنصليات" ووضع اليد في يد الرباط لبناء شراكة استراتيجية حقيقية متوازنـة وفق "قاعدة رابح .. رابح" شأنها في ذلك شـأن بلدان الاتحاد الأوربي، أو الرهان على أعداء الوطن من "آل بطــوش".

 

نأمل أن تختار "حكومة مدريد" الخيار الأول لأنه هو الخيار الحقيقي والمسؤول والمتبصر، وإذا اختارت التموقع في خندق الأعـداء الخالدين، فلابد أن تتحمل العواقب والتداعيات، وفي جميـع الحالات فالمغرب في صحرائه والصحراء في مغربها، و"مغرب اليوم ليس كمغرب الأمس" شاء من شاء وأبى من أبى، والرباط بات لها شركاء وحلفاء أوفياء، برهانهم على المغرب، راهنـوا على الاقتصاد والتنمية والخيرات والمكاسب المتبادلة، كما راهنوا على الأمن والوحدة والاستقرار والصداقة والسـلام، وخاصة على "إفريقيا" التي تعد مستقبل العالم ... عسى أن يظهر في الجارة الشمالية، حكماء وعقلاء يصححون المسـار ويصوبون الرؤيـة، لما فيه خيرا للشعبين الجارين الصديقين المغربي والإسباني، أما "آل بطوش"، الذين تورطوا في جريمة "بن بطوش" وورطوا معهم "إسبانيا"، فقد زادوا بؤسا وعزلـة، ولم يعد أمامهم إلا "الانحناء" و"الانبطاح" و"التنازل"،  وفي يدهم "ورقة الغاز" التي تسخـر بدون خجل أو حياء ضد دولة جارة عربية وإسلامية، بدل أن تسخر هذا المورد الطبيعي لخدمة التنمية والارتقاء بمستوى عيش المواطن الجزائري الأخ والشقيق، الذي يتوق إلى الحليب والدجاج والسكر والزيت والمـوز ومواد أخرى، وهو في رحلة البحث عن الكرامة الضائعـة ....

 

ونختم بتحية الدبلوماسية المغربية الرصينة والمتبصرة التي يقودها الملك محمد السادس بحرفية واقتدار، وأن ننـوه بالأساس بجنود الخفاء الذين يقفون وراء هذا الإشعاع الدبلوماسيالوازن، في وزارة الشؤون الخارجية و التعاون الإفريقي و المغاربة المقيمين بالخارج وعلى رأسهم "ناصر بوريطة" الذي بات ملاكما شرسا من العيار الثقيل،وبالكفاءات الدبلوماسية والقنصلية المغربية عبر العالم، ومنها على سبيل المثال لا الحصر السفيرة المغربيـة المعتمدة بمدريد "كريمة بنيعيش" التي شدت إليها الأنظار في عز أزمة الرباط مع مدريـد، ولايمكن إلا أن ننـوه بكفاءتها العالية وثقافتها الغنية، وبما أبانت عنه من مسؤولية وجدية وحزم والتزام وكاريزما، وهي تخاطب وسائل الإعلام الإسبانيـة حول حقيقة الأزمة القائمة مع مدريـد، وإذ ننوه بهذه الكفــاءة المغربية التي تجسد مفخرة للمغرب وللمرأة المغربية بالخصوص، نؤكد عبر هذا المقال، على أن المناصب والمسؤوليات العليا، لابد أن تسند إلى الخبرات والكفاءات القادرة على إحداث التغيير والانخراط في دينامية الإصلاح والتحديث، بعيدا عن واقع الترضيات والولاءات والعلاقات والتزكيات، لأن الوطن ليس "كعكة" كما يتصور البعض أو "بقرة حلوب" كما يتخيل البعض الآخر، وفي ظل ما يتعرض له البلد من ضغوطات واستفزازات غير مسبوقة، باتت المصلحة الاستراتيجية للوطن، تقتضي الرهان على ما نزخر به من الخبرات والكفاءات في الداخل أو في الخارج على مستوى مغاربة العالم، بشكل يضمن التصدي للخصوم والأعداء بنجاعة، والترافع البناء والشرس دفاعا عن المصالح الاستراتيجية العليا للوطـن، وإعطاء صورة ناجحة وراقية لمغرب الحداثة والتغييـر، أما الكسالى والعجزة الباحثين على الريع والنوم والراحة والاستراحة، فزمنهم لابد أن ينتهي، لأنهم يعرقلـون عجلة الوطن، ويحرمونه من أية فرص للنهوض والتحرك والارتقاء ...