الجمعة 19 إبريل 2024
خارج الحدود

لحسن العسبي: مروان البرغوثي.. مانديلا فلسطين

لحسن العسبي: مروان البرغوثي.. مانديلا فلسطين مروان البرغوثي، ولحسن العسبي (يسارا)
بمجرد أن أعلن المناضل الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي، رسميا ترشحه للإنتخابات الرئاسية الفلسطينية، مدعوما من تيار وطني فلسطيني من كل الفصائل، كرمز موحد للقوى الوطنية الفلسطينية، كنت واحدا من بين آخرين ظلوا يرددون في دواخلهم "أفلحت الإنتخابات الفلسطينية، إن صدقت". ولم يتأخر الجواب كثيرا، حين خرج الرئيس الفلسطيني الحالي محمود عباس (أبو مازن)، ليعلن تأجيل تلك الإنتخابات بدفوع غير مقنعة كثيرا، كان ملف وضع القدس ومشاركة المقدسيين فيها في الواجهة.
ولأن القراءة المنصفة تتطلب واجب الإنتباه للتفاصيل، بأكبر قدر ممكن من التحرر من العاطفة الجياشة (التي أغلبها صادق على كل حال في الوجدانين الفلسطيني والعربي)، فإن الأمر يفرض تأمل ماجرى من تلاحق للأحداث بغير قليل من الروية والهدوء والصدق مع الذات، وأخد مسافة من خدر الإيديولوجيات المتقاطعة. وأن الأمر يفترض الإحتماء بالسقف الوطني الفلسطيني في المقام الأول كقضية عادلة لشعب يؤدي ضريبة غالية من أجل حقه في الوجود والحرية والإستقلال، منذ أكثر من 70 سنة، ضمن اصطخاب مدوخ لمصالح عالمية معقدة بالمشرق العربي.
الذي جرى، هو أنه انطلق مباشرة حينها مسلسل استفزاز بمدينة القدس الشرقية، كان موضوعه أمران حاسمان ومؤثران كشرارة، هما العودة إلى الإعتداء على الحرم الإبراهيمي وعلى باحة المسجد الأقصى بكل ما يستتبعه ذلك من مواجهات بين المقدسيين وسلطات الإحتلال الإسرائيلية. ثم فتح ملف الإعتداء عبر التهجير الممنهج ضد عائلات فلسطينية عريقة بحي الجراح بالقدس الشرقية. وصار الشعار هو "كلنا حي الجراح"، الذي أصبح المادة الأولى في مختلف وسائل الإعلام العربية والدولية.
كان طبيعيا أن يستحث ذلك التطور الميداني للمواجهات المقدسية، ردود فعل في الشارع الفلسطيني كله. لكنها ردود ظلت تختلف ما بين غزة والضفة، عنوانا على تقاطب مؤسف في الصف الوطني الفلسطيني منذ سنوات بين حماس من جهة وبين باقي الفصائل المؤطرة تاريخيا ضمن بنية منظمة التحرير الفلسطينية. بكل الإمتدادات التي لذلك التقاطب خارج فلسطين، سواء صوب إيران أو قطر أو تركيا أو مصر أو السعودية. بل بعضه له امتدادات تواصلية حتى مع واشنطن أو تل أبيب.
أرض معركة الصور (والصورة حرب كاملة في عالم اليوم)، ستنتقل إلى المواجهات في غزة مجددا، بين جهتين، حماس من جهة ومجموعة نتنياهو في تل أبيب من جهة أخرى. ولكل واحد منهما حسابه السياسي المصلحي طبيعيا في "معركة الصور" تلك. وحرب الصور ليست حربا متخيلة، بل هي أزيز طائرات وقنابل وصواريخ وبنى تسقط وضحايا أبرياء يغتالون عنوانا لجرم ضد الإنسانية (ضمنهم صف طويل من الأطفال والنساء والشيوخ). والتطور المسجل لأول مرة هناك، هو أن صور القصف لم تعد محصورة  في "غيثو غزة" (لأن غزة للأسف سجن كبير مفتوح على السماء)، بل شملت حتى تل أبيب وعسقلان وعددا من بلدات دولة إسرائيل. وأن سقوط الضحايا سجل برقم غير مسبوق لأول مرة في الضفة الإسرائيلية أيضا. بمعنى أن تغيرا قد طال لأول مرة معادلة "معركة الصور" الرمزية دلاليا وسياسيا. وهنا، للحقيقة، بعض من انتصار صواريخ غزة الحماسية على قبة الردع الإسرائيلية.
هل انتصرت فلسطين وانهزمت إسرائيل؟. سيكون من الكذب على الذات الجزم بذلك، حتى وفلسطين وشعبها منتصر دوما قيميا بفضل عدالة قضيته الوطنية أمام ضمير العالم.
إن من الخلاصات الكبرى لما حدث مجددا بالملف الفلسطيني- الإسرائيلي، يمكن إجمالها في ما يلي:
- عودة جديدة للعلم الفلسطيني، عنوان قضية شعب مظلوم ومقهور من قبل نظام محتل وعنصري، لترفرف بكبريات شوارع العالم، واحتلت شاشات كبريات القنوات التلفزية والمواقع الإعلامية بالقارات الخمس. وهذا انتصار في "معركة الصور" كبير مرة أخرى، عنوانا على أن ملف فلسطين لن يغلق أو ينسى أو يطوى بغير تحقيق مطلب دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية.
- نجح نتنياهو وفريقه في أن يعيد ترتيب الصف الإسرائيلي داخليا وراء مشروعه السياسي (مما ستكون له نتائج انتخابية أو في تشكيل الحكومة المتعثر). وخارجيا في علاقته مع السلطة الجديدة بالبيت الأبيض، ومع محيطه الإقليمي (خاصة مع مصر وتركيا).
- نجحت حماس في أن تعود إلى الواجهة الداخلية الفلسطينية كصوت للمعركة، بكل ما تحمله من خطاب سياسي وإيديولوجي ضمن تيار ديني فوق وطني. وأنها على مستوى الصورة رسخت لأول مرة لنموذج نضالي فلسطيني جديد، يقود فيه قادتها من قيمة موسى أبومرزوق و إسماعيل هنية و خالد مشعل، المعركة من عواصم خارجية (الدوحة بقطر)، لا علاقة لها بالصورة التي كانت سابقا مع جيل ياسر عرفات وأبوجهاد وأبو إياد، حيث كان عرفات يحمل البندقية ويقاتل إلى جانب المقاومين من أبناء بلده في بيروت المحاصرة من قبل شارون أو في طرابلس اللبنانية المحاصرة من قبل جنود حافظ الأسد أو في رام الله أمام مدفعية شارون، قبل أن يتم اغتياله مسموما داخل فلسطين المحتلة.
- لو أجريت الإنتخابات الفلسطينية اليوم، ستكون النتائج شيئا آخر غير الذي كان منذ أسابيع قليلة، حين أعلن رسميا ترشح المناضل الأسير مروان البرغوثي. ما يجعل الملاحظ يكاد يجزم أنه لا تل أبيب كانت تريد تلك الإنتخابات ولا جهات فلسطينية في غزة وفي رام الله.
- الملاحظ اليوم، أيضا، أن جيلا جديدا من الصف الوطني الفلسطيني، العامل في الميدان، قد بدأ يطل برأسه تنظيميا. هل سيكون ملمحا لتجدد للحركة الوطنية الفلسطينية كحركة تحرير بسقف وطني لا فصائلي، كما ظلت تتوالى منذ جيل عزالدين القسام سنة 1948، حتى جيل النكبة مع ميلاد منظمة التحرير الفلسطينية بعد هزيمة 1967، إلى جيل الإنتفاضة بعد سقوط جدار برلين سنة 1989، إلى جيل اتفاقيات أوسلو التي انتهت واقعيا اليوم؟. ذلك سؤال متروك للمستقبل.
ولعل أهم وأكبر الأسئلة اليوم هو: 
هل نحن أمام انعطافة فلسطينية جديدة، من الداخل الفلسطيني، ستكون رمزية المناضل الفلسطيني الأسير مروان البرغوثي مقدمة لصورتها اليوم. صورة أن يتحول الرجل (الذي عليه إجماع نضالي وقيمي داخل الشارع الفلسطيني من مختلف التيارات)،  يتحول إلى "مانديلا فلسطين"؟. كثير من العلامات تقود إلى الإيمان بذلك.