الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (28)

عبد الصمد الشنتوف يروي تفاصيل تجربة عابرٍ إلى الضباب (28) عبد الصمد الشنتوف، ومشهد لرقصة فلكلورية
في المساء أطلت سوزان بفستان ساحر بلون أحمر غامق يخطف الأنظار، أمسكت بذراعي ورحنا على قاعة حفل الزفاف في "سيفن سيستر". ارتديت بذلتي الأنيقة مع ربطة عنق زرقاء وحذاء أسود من نوع كلارك ، فيما فستان سوزان كان من قماش الشيفون مع حذاء لامع بكعب عال زادها بهاء وإثارة، كانت تمشي ممشوقة القوام مرفوعة الرأس وكأنها أميرة يونانية ، يفوح جسدها بعطر "مس ديور" العابق بشذى الهيام ، تسريحات شعرها الكستنائي تنساب على كتفيها الناعمتين .
باب القاعة خشبي ضخم مقوس يشبه بوابة بيت أرستقراطي، تعلوه يافطة بيضاء مكتوب عليها بخط ذهبي عريض " مرحبا بضيوفنا الغالين" ! لى جوانبه تقف شابتان فاتنتان بلباس يوناني تقليد ، توزعان على المدعوين ابتسامات عذبة مع وردة حمراء لكل واحد منهم.
دلفنا إلى قاعة شاسعة مزينة بديكورات ملونة براقة ، نمشي مزهوين في الممر على بساط أحمر بخطوات متثاقلة على وقع موسيقى هادئة أعدت لاستقبال الضيوف، أجول بخاطري بين أرجاء القاعة الفاخرة، أوزع نظراتي وابتساماتي على باقي المدعوين، لفحت وجهي روائح عطور قوية ممزوجة بالبلسم والزهور، وقفت هنيهة أنظر منبهرا إلى الفضاء البهي، وكأنني في حلم !
حلقت بذاكرتي إلى الوراء وتراءى أمامي حفل زفاف جارنا عبدالهادي قبل مجيئي إلى لندن . حفل أقيم في خيمة ضخمة تم نصبها فوق سطح البيت . في منتصف يوم قائظ صعدت الدرج فوجدتني أمام عجل نافر موثق بحبل متين من قرنيه عند ركن السطح، نظرت إليه مشفقا ، بدا العجل خائفا متوترا يتحرك بهياج في مكانه . بعدئذ حضر جزار الحي عمي المعطي بسروال قندريسي فضفاض صحبة معاونه بوسلهام . أخذ يحملق في وجه العجل ممسكا بكيس ، يغمغم بشفتيه يقرأ بعض آيات الذكر الحكيم ، فيما يلف بوسلهام حول ذراعه حبالا طويلة.
على مبعدة أمتار يقف رجال بجلابيب قصيرة مزينة بورود صفراء ، يقرعون الطبول ويعزفون على المزامير . زغاريد النساء تصدح في السماء وتزيد فزع العجل تأججا . استل عمي المعطي سكينا حادا من كيسه، ووقف في مواجهة الحيوان وكأنهما يستعدان للمعركة ! بدا المشهد شبيها بسبارتاكوس حين مصارعته لوحش في حلبة روما . كلما اقترب الجزار منه ازداد العجل نفورا، يحوم بوسلهام حول الحيوان بحباله محاولا لفه بها كي يسقطه أرضا فيتسنى للجزار الإجهاز عليه . كلما ارتفع صخب الطبول والمزامير ازداد العجل ارتباكا وجنونا، أخذ يجفل ويركض بجنون، أصابته نرفزة شديدة . على حين غرة، تمزق الحبل وانفلت العجل المرتعب من عقاله ، ضج السطح بولولة النساء وصراخ الأطفال ، خيمت الفوضى وعم التدافع..
فجأة انطلق العجل بسرعة صاروخ وقفز فوق الجدار، تهاوى في الفراغ بجثته الضخمة على الزقاق، سقط مرتطما بقوة على الإسفلت وكأنه قصد الانتحار . هرع عمي المعطي ليهبط مسرعا عبر الدرج ليتقصى ما حدث ، تبعه بوسلهام ممسكا بحباله ، لحسن الحظ ألفيا العجل لا زال على قيد الحياة ، كان مطروحا على الأرض يخرخر ويحتضر، فاستل الجزار سكينه الطويلة وذبحه أمام أعين الناس بعدما قرأ عليه البسملة.
في يوم الغد رجعت ليلا إلى بيت عبدالهادي لأشارك المدعوين ليلة العرس الكبرى ، اقتعدت كرسيا بجوار أصدقاء الحي داخل خيمة تقي المدعوين من ندى اللي ، بدت ممتلئة عن آخرها بضيوف كهول وشباب، لا وجود للنساء في حفلنا البهيج ، هكذا تقتضي العادات ! كنا نردد أغان شعبية مع فرقة المطرب "السربوت"، أرقص وسط حشد من المدعوين حتى كاد يسقط البيت على رؤوس أصحابه. زملاء عبدالهادي في العمل حملوا معهم قنينات جعة "ستورك" خلسة ، يشاركهم العريس في احتسائها خفية بعيدا عن عيون أهله ، كان يقهقه بصخب خلال ليلة عمره.. على الساعة الثانية بعد منتصف الليل حملوا لنا قصعات تفيض بقطع لحم العجل "المنتحر" مع لوز مقلي وبرقوق معسل، تداعينا إليها في مجالس مزدحمة وشرعنا نلتهم اللحم الطازج بتلذذ ولهفة.
عندما فرغنا من الطعام، رفع الفقيه كفيه إلى السماء يدعو للعريس ليبارك الله في قرانه المبجل ، بعد ذلك أحضروه ملفوفا في جلباب أبيض مغطى الرأس لا يظهر منه شيء . أمسكه زملاؤه من ذراعيه واقتادوه نحو مسجد الحي على وقع هتافات وابتهالات دينية ، كان لا يقوى على الوقوف ، يمشي العريس مترنحا بعد إفراطه في شرب الجعة، ظل الإمام يدعو له بصوت عال في خشوع فيما نحن نردد وراءه جهرا بقول : آمين ! دون أن يدري الفقيه أن عبدالهادي كان ثملا فاقدا وعيه.
استقبلتنا شابة جميلة بلباس إغريقي حينما تجاوزنا الممر، كانت أول مرة في حياتي أحضر حفلا راقيا مماثلا ، أومأت لنا برأسها أن نتبعها ، سرنا خلفها وقد طفحت على وجهي ملامح الإنبهار . أخذتنا نحو مائدة مستديرة ملفوفة بغطاء أبيض مطرز بلون توركواز، ومؤثثة بباقة ورود ملونة مع شمعدان كريستال لامع مضيء على سطح المائدة صحون بيضاء مزينة بخطوط فضية مع مناديل ناعمة، شوكات وسكاكين فضية لامعة موضوعة بعناية على حواشي الصحون .
قدمتني سوزان لأفراد عائلتها كصديق تعرفت عليه في ورشة العمل، قائلة :
- يشرفني أن أقدم لكم صديقي عبدو من المغرب ، جاء ليؤثث بحضوره معنا حفل زفاف كارمن . احمر وجهي خجلا ، ارتبكت قليلا وارتسمت على وجهي ابتسامة عريضة . جلست متوسطا سوزان ووالدتها هيلينا، على يمين هيلينا يجلس أخوها توماس رفقة زوجته البدينة، قبالتي أخت سوزان كريستينا مع زوجها الصحافي أندريس.
صرنا سبعة أشخاص حول المائدة ، مغربي واحد يتوسط ستة قبارصة يونانيين، برقت في ذهني مقولة صديقي كريم المتزوج بشابة إجليزية حين سألته : ما هو إحساسك عندما تجالس أصهارك النصارى في بيتهم ؟ صدمني برده قائلا : أشعر وكأني فص ثوم داخل حبة مندرين.
أعيش نفس وضع كريم اليوم ، لم يسبق لي أن خالطت النصارى في افراحهم ولا في أحزانهم من قبل . رفعت عيني في وجه هيلينا فوجدتها تسترق النظرات إلي ، قرأت في عينيها حزنا عميقا ، زوجها للتو هجرها الى امرأة اخرى كما حكت لي سوزان ، وهذا يفسر عدم حضوره حفل زفاف كارمن . لا شك أن قلب هلينا مكلوم ولن تغفر لزوجها صنيعه ، مثل هذا الجرم يظل عالقا في ذاكرة النساء إلى الأبد.
همست هيلينا في أذن ابنتها سوزان مبدية رأيها في قائلة : إن عبدو يشبه القبارصة كثيرا في سحنتهم ، لا أحد سيخمن أنه عربي أتى من شمال إفريقيا . عندما تراها تحسبها مثل امرأة غجرية ، تحمل نظارات طبية وتزم شفتيها الضيقتين ، ذلك أنها ليست جميلة مثل النساء العربيات . أخوها توماس يصوب إلي نظرات مريبة وكأني نزلت عليهم من كوكب بعيد .
استجمع توماس شجاعته وبادرني بسؤاله :
- ماذا تشتغل يا عبدو ؟
- أجبته أنني طالب أدرس تكييف الهواء بإحدى معاهد التكنولوجيا في طنجة
رد علي قائلا :
- أنا أدرس التاريخ في إحدى مدارس شمال لندن ، مضيفا وكأنه يمتحنني في مادة التاريخ :
ماذا تعرف عن اليونان ؟
- أعرف أفلاطون ، أوناسيس ودميس رسوس !
- ضحك الرجل وعلق قائلا : إذن تعرف الكثير عن بلدنا ، راقني هذا المزيج من الشخصيات اليونانية التي ذكرت !
- والدي أيضا يشتغل مدرس مثلك في المغرب ولديه إلمام بعلوم الدين والتاريخ .
- دعنا من الدين جانبا ولنتحدث في التاريخ ! استرسل قائلا :
- بحثت في كتب التاريخ ولم أجد أية روابط بين الإغريق والمغرب .
- هذا غير صحيح سيدي ، ألم تسمع بمغارة هرقل المطلة على المحيط الإطلسي في شمال المغرب ؟ !
اندهش توماس من كلامي وقال :
- هل تقصد هرقل ابن زيوس المعروف في الميثولوجيا الإغريقية كمصارع لآلهة الشر ؟ .
أجبته بكل ثقة :
- نعم إنه هرقل الأسطورة الذي انتقل من اليونان إلى مغارته الشهيرة بطنجة قبل خمسة آلاف من السنين .
علق أندريس على جوابي قائلا :
- لم يسبق لي أن سمعت بهرقل الإغريقي انتقل إلى مغارة بطنجة في التاريخ القديم ، لكن سمعت باليوناني الإمريكي إيون برديكاريس الذي انتقل للعيش بطنجة في نهاية القرن التاسع عشر..
- أجبته : كلامك صحيح فيما يخص برديكاريس لكن هرقل ايضا انتقل للعيش بمغارته المطلة على مياه المحيط الموحش ، هكذا تقول الأسطورة . بدا توماس مصعوقا بكلامي فرد علي مندفعا بعدما أومضت ذهنه بمعلومات جديدة : إذن حدثنا عن أسطورتك المغريبة ؟ !
- لذت بصمت قليل واسترسلت :
- تحكي الأسطورة الإغريقية أن هرقل مكث في مغارته بطنجة بعدما صارع قراصنة البحر ، وذات يوم خاض قتالا شرسا مع وحش هائل ، وأثناء ساعة غضب قوي ضرب الجبل فانشق إلى جزئين لتختلط مياه البحر المتوسط الزرقاء بمياه المحيط الأطلسي ، وتنفصل أوروبا عن إفريقيا .
- أطلقت زوجة توماس ضحكة هازئة وقالت : كل ما تحكيه ترهات وكذب يا عبدو !
رددت عليها بابتسامة خبيثة :
- من دون الكذب تتحول الحياة إلى أكلة سمجة، فهو ملحها حتى لا تظل رتيبة وضجرة.