رددت طيلة سنوات في واحدة من أشهر أغانيها الشعبية "أنا بعدا مقابلة لبحر لا يرحل"، قبل أن ترحل من بين ظهرانينا بشكل لارجعة فيه، وبقي البحر الذي تغنت به لسنوات طوال، وستبقى أمواجه الأنيقة مرآة عاكسة لأيقونة من أيقونات الأغنية الشعبية، النبش في حفرياتها لن يكون إلا نبشا في التاريخ والتراث والنضال والذاكرة الفنية والغنائية المغربية.
رحلت الأيقونة "الحاجة الحمداوية" في صمت بعد رحلة حياة تجاوزت التسعين عاما، حضرت فيها مشاهد التواضع والبساطة والصبر والتحمل والمعاناة والمحن، كما حضرت فيها طقوس التضحية والعطاء والسخاء والإبداع والإشعاع .. رحلت صاحبة "العار يا العار"، "دابا يجي يا الحبيبة"، "منين أنا ومنين نتا"، "وريني وحشك أ الغابة"، "الكاس حلو"...، رحلت الحاجة الحمداوية التي عاصرت ثلاثة ملوك وعايشت مغرب الاستعمار ومغرب الاستقلال، بشكل يجعل منها "أيقونة غنائية" ليس فقط شاهدة على العصر، بل وقصيدة إبداع سخية، أبياتها عاكسة لمسارات تطور الأغنية الشعبية المغربية عموما وفن العيطة بوجه خاص.
سطع نجم الحمداوية مبكرا في زمن الاستعمار وفي خضم رحلة الكفاح من أجل نيل الحرية والاستقلال، ويسجل لها التاريخ أنها أشهرت بجرأة سلاح "العيطة" في وجه الاستعمار في مجتمع "رجولي" بامتياز، وناضلت من أجل قضية الوطن والتراب، لما أوتيت به من صوت أنيق، استطاع الصمود والاستمرارية رغم تقلبات الزمن ومحن الحياة، ورغم ما شهده الحقل الغنائي من تطورات ومتغيرات أزاحت الرواد من عالم الضوء تباعا، وإذا كانت الراحلة قد نجحت في الإبقاء لها على موضع قدم في المشهد الغنائي الشعبي حتى أواخر سنوات عمرها، وتمكنت من كسب ود ومحبة وتعاطف الأجيال المتعاقبة إلى حين ترجلها عن صهوة الحياة، فلأنها انفردت بما تفرق في غيرها، من أناقة في الهندام الأصيل وأناقة في الصوت وأناقة في الكلام، وقبل هذا وذاك، مما عرفت به في حياتها من اتزان وتواضع وسخاوة وبساطة.
يسجل التاريخ أيضا للراحلة الحمداوية أنها أحدثت ما يشبه بالثورة الناعمة في مجال العيطة، واستطاعت أن تطوع هذا الفن الشعبي الأصيل وتخرجه من جلبابه البدوي التقليدي، لتحوله إلى فن شعبي "أنيق"تقاطعت فيه مفردات التميز والتفرد والرقي والإبداع، ونرى أن سفرا مجانيا بين دروب وأزقة ما تركته الراحلة من روائع غنائية شعبية، يعطي الانطباع منذ الوهلة الأولى أننا أمام "مدرسة حمداوية" خالصة في "فن العيطة"، يصعب علينا تشريحها أو فك شفراتها، ونحن نفتقد لأدوات النقد الفني ووسائل النبش في تضاريس ما تخصصت فيه من نمط غنائي شعبي، لكن نستطيع بالمقابل، أن نثير اهتمام الباحثين والمهتمين إلى قيمة ما تركته الراحلة من تراث غنائي شعبي على جانب كبير من الأهميــة والثراء.
الراحلة "الحمداوية" تجاوزت مسيرتها الفنية والغنائية عتبة الستة عقـود، وبهذا العمر الفني الطويل، استطاعت عن جدارة واستحقاق أن تطبع تاريخ الأغنية الشعبية المغربية عموما وفن العيطة بشكل خاص، لما خلفته من إرث غنائي شعبي، تجاوز حدود الفن والطرب والرقي والإبداع، ليلامس ضفاف التاريخ وشواطئ التراث الفني المشترك وأروقة الذاكرة الغنائية الشعبية الوطنية، وهو إرث موسيقي وغنائي زاخر، يحق لنا اليوم بعد رحيل صاحبته، أن نتساءل عن واقع حاله من حيث الحفظ والرعاية والتوثيق لارتباطاته المتعددة الزوايا بالتراث الموسيقي الوطني وبالذاكرة الغنائية الشعبية من حيث عمقها الفني والإبداعي والتاريخي والهوياتي.
رحلت الأيقونة "الحمداوية" كما رحل قبلها العديد من رواد الفن والموسيقى والإبداع، ونرى أن المناسبة تفرض فتح ملف الأرشيف السمعي البصري للأغنية المغربية، الذي يرقد في صمت داخل أروقة مكاتب الأرشيف بمختلف القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية، ليس فقط من باب إثارة السؤال أو الأسئلة حول ظروف حفظه وتدبيره وإتاحته للجمهور، بل ومن أجل فتح نقاشات حول سبل التعامل مع هذا النمط من الأرشيف، بما يضمن بلورة رؤية رصينة ومتبصرة من شأنها الدفع في اتجاه إعادة تشكيل الذاكرة الموسيقية والإبداعية المغربية، لما لذلك من صون للتراث الأرشيفي الموسيقي المشترك ومن تثمين للرأسمال اللامادي الوطني.
وفي هذا الإطار فإذا كانت الطرق السيارة معبدة أمام "أرشيف المغرب" فيما يتعلق بسلطة الإشراف على "الأرشيف العامة" التي تنتجها مختلف إدارات الدولة، ورغم أن القانون المتعلق بالأرشيف لم ترد في مقتضياته أية إشارة ذات صلة بالأرشيف السمعي البصري، نرى أن المؤسسة الحارسة على الأرشيف العمومي، لابد أن تدخل على خط "الأرشيف السمعي البصري" لاعتبارات ثلاثة:
- أولها: حساسية "الأرشيف السمعي البصري" الذي يبقى معرضا للضرر أو التلف، اعتبارا لطبيعة التكنولوجيا المستخدمة لحفظه، والتي باتت اليوم متجاوزة، قياسا لما شهده ويشهده مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال من تحولات ومتغيرات، أتاحت إمكانيات هائلة على مستوى طرق حفظ الأرشيف، وفي هذا الصدد، يبقى خطر الضرر أو الإتلاف قائما بخصوص الأرشيفات السمعية البصرية التي سجلت خلال القرن الماضي.
- ثانيها: الضرر أو الإتــلاف معناه بتر أطراف من التراث الأرشيفي الوطني، وحرمان الأجيال القادمة من التعرف على إرثنا السمعي البصري العاكس لممارساتنا وخبراتنا وأفكارنا بالصور المتحركة والأصوات الإذاعية.
- ثالثها: الحاجة الماسة إلى "رقمنة" الأرشيف السمعي البصري لأنه الأكثر عرضة للضرر أو التلاشي أو الإتـلاف بالمقارنة مع الأرشيف التقليدي (الورقي)، وهذه "الرقمنة" باتت ضرورة ملحة، مرتبطة بقيمة مضامين ومحتويات هذا الأرشيف السمعي البصري الذي يوثق الماضي بالصورة والصوت، وفي توثيق الماضي حماية للتراث المشترك وضمانا لاستمراريته عبر الأجيال المتعاقبة.
وعليه، واستحضارا للاعتبارات المشار إليها سلفا، واستنادا إلى ما ورد في المادة 24 من القانون المتعلق بالأرشيف، والتي أتاحت لمؤسسة أرشيف المغرب آليات قانونية لوضع اليد على "الأرشيف الخاصة" ذات النفع العام في إطار صيانة تراث الأرشيف الوطني، بات من اللازم على المؤسسة الحارسة على الأرشيف العمومي أن توجه البوصلة نحو "الأرشيف السمعي البصري الذي يرقد بسلام بأرشيفات القنوات التلفزية والمحطات الإذاعية خاصة العمومية منها، وأن تضطلع بصفتها "سلطة أرشيف" بأدوارها في معاينة واقع حال هذا "الأرشيف السمعي البصري" من حيث "حالته الصحية" وظروف حفظه ومعالجته، والتثبت من مدى التقيد بالضوابط القانونية والتنظيمية ذات الصلة بحفظ هذا النمط من الأرشيـف، وتقديم الخبرة اللازمة عند الاقتضاء والتي تسمح بسد الثغرات التدبيرية القائمة، بشكل يسمح بتجويد واقــع الممارسة الأرشيفية السمعية البصرية.
وبما أنها مؤسسة راعية للتراث الأرشيفي الوطني، فهي مدعوة لمد جسور التعاون والتشاور والتنسيق مع الجهات المنتجة لهذا النمط من الأرشيف (قنوات تلفزية، محطات إذاعية ...) في أفق فتح أرصدة أرشيفية سمعية بصرية على مستوى "أرشيف المغرب" تتحقق معها رهاناتصيانة التراث الأرشيفي الوطني بمستوياته المختلفة ( الورقي، الإلكتروني، الرقمي، السمعي، البصري) وحماية الذاكرة الجماعية بروافدها المتنوعة (الفنية، الموسيقية، التراثية، الرياضية، العلمية، الثقافية، الإعلامية، التربوية ...)
وإذا كان خبر رحيل الأيقونة "الحاجة الحمداوية رحمها الله، هو الذي حرك القلم للنبش مرة أخرى في تضاريس "الأرشيف" والتيهان بين شعابه المتناثرة، فهي فرصة لنسائل ما خلفته الراحلة من نفائس غنائية شعبية، تعد جزءا لا يتجزأ من الذاكرة الموسيقية الشعبية المغربيـة بالنظر إلى المسيرة الفنية للمعنية بالأمر والتي تجاوزت عتبة السبعين عاما، وهامة غنائية شعبية بهذه القيمة وبهذا الثراء، تفــرض استعجال جمع شتات ما خلفته على امتداد تاريخها الفني من روائــع غنائية ذات حمولة إبداعية وتاريخية ونضالية وتراثية، ومن باب ثقافة التكريم والاعتراف والاحترام والتقدير، فهي تستحق أن يفتح لها رصيد سمعي بصري على مستوى "أرشيف المغرب" إحياء لذكراها واعترافا بما أسدته من خدمات في سبيل الرقي بالأغنية الشعبية المغربيـة عموما وفن العيطة خصوصا.
ونختم المقال بتوجيه البوصلة مرة أخــرى نحو "الأرشيف السمعي البصري" الذي يرقد بأرشيفات مختلف المؤسسات الإعلامية الوطنية من قنوات تلفزية ومحطات إذاعية، وهذا الأرشيف النوعي، آن الأوان لإخضاعه إلى سلطة المعاينة والتشخيص، وما يقتضيه ذلك من تدخلات استعجالية ومن خطط انقاذ، استحضارا لحساسية هذا النمط من الأرشيف الذي يقتضي تدبيرا خاصا يضمن له البقاء والحياة والاستمرارية، لما يحمله من محتويات توثق للتاريخ والهوية والذاكـرة عبر الصورة والصوت، وإذا كنا نعول في هذا الإطار على الإرادة والمسؤولية والرؤية المتبصرة للمستقبل، فلابد أن نعول أيضا على القانون لضبط الممارسات وتحديد المسؤوليات، وهنا نقترح إخضاع القانون المتعلق بالأرشيف إلى دراسة تشخيصية بعد مضي زهاء 14 سنة من إصداره، بشكل يضمن سد الفراغات التي يكشف عنها واقع الممارسة الأرشيفية، وإدراج بعض الممارسات الأرشيفية المغيبة ومنها بالأساس "الأرشيف الإلكترونية"، "الأرشيف الرقمية"، "الأرشيف السمعي البصري" ... إلخ.