الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (1)

عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ"..زمن ومكان نشأتها وحضور شعر الغزل في متونها (1) حسن الزرهوني، الزميل أحمد فردوس(يسارا)

تواصل جريدة "أنفاس بريس" فتح شهية علبة مخزون الفنان التشكيلي والموسيقي حسن الزرهوني على مستوى فن العيطة المغربية، للخوض هذه المرة في روائع شعر الغزل من خلال ملفنا الإعلامي الجديد في موضوع "شعر الغزل في العيطة العبدية".

يتفق أغلب الأدباء على أن الغزل "هو فنّ من فنون الشعر، وغرض أساسيّ من أغراضه، صنّف على أنّه من أعظم فنون الشعر العربي القديم، يعبر الشاعر من خلاله عن أحاسيسه تجاه محبوبته، واصفاً محاسنها، متغنياً بجمالها، مشتاقاً لرؤيتها، حزيناً على فراقها، مع تركيزه في وصفه لها على مواطن التميّز فيها... وهو يصور خلجات النفس، وفرحتها بلقاء المحبوبة، وحزن الشاعر على فراقها، إذ تميز بقوة العاطفة وحرارتها".

لقد وجدنا أن الغزل قد حظي باهتمام كبير من قبل الشاعر(ة)/ الناظم (ة) لقصائد العيطة المغربية عامة وخصوصا الحصباوية منها، حيث نسوق في الحلقة الأولى مع ضيف الجريدة، نموذجا رائعا لتألق ناظم (ة) قصيدة عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، والتي سنحاول تفكيك بعض متونها الشعرية في سياق أحداث تاريخية شهدتها منطقة أسفي و عبدة في الفترة التي تشكلت فيها هذه العيطة الجميلة المتكاملة البنيان.

فهل توفق الناظم/ الشاعر في وصف الحبيبة/المرأة الفاتنة التي كانت سببا في معاناته، وهل صاغ متونه الشعرية وكلماتها وصورها البلاغية بنفس يعكس حجم عشقه للمحبوبة في زمن غير زماننا، وأسئلة أخرى سنجيب عليها في الحلقات القادمة؟

لقد خصصنا الحلقة الأولى لتفكيك الشطر الأول "بِينْ الجًمْعَةْ وَالثْلَاثْ" من عنوان هذه العيطة في سياقها التاريخي ومواقع وأمكنة أحداثها التي يرويها حسن الزرهوني على لسانه استنادا على مراجعه ووثائقه التاريخية التي نهل منها زاده المعرفي.

تعتبر عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْمن أجمل وأطول العيوط العبدية الحصباوية التي تتكون من عشرة أجزاء، حيث يتغنى بها الشيوخ على المقامات الموسيقية المتمثلة في مقام "البَيَاتِي" على "لاَ" ، ومقام "صٌولْ" و "فَا"، ثم مقام "سِيكَا" على "صٌولْ".

في هذا السياق يؤكد ضيف الجريدة قائلا: "لقد شكل موضوع المرأة حضورا قويا، ومكانة مهمة، ونصيبا وافرا في مضمار العيطة العبدية، باعتبار أن شعر الغزل تخصص في تناول تيمة الحب والغرام وما يتصل به ويرتقي بالتجربة العاطفية الإنسانية إلى أرقى صورها وأسمى معانيها. حيث اجتهد الشاعر في تقديم صور عديدة للمرأة سواء في المجال القروي أو الحضري من خلال العلاقات التواصلية العائلية أو القبلية، وخلال جلسات السمر الفنية لأعيان القبائل ورجالات المخزن المحلي وغيرهم".

إن حضور المرأة كأداة إتخذها الشاعر(ة)/ الناظم(ة) سبيلا للتعبير والتأثير على المستمع/ المتلقي، إيحاء ورمزا، ووسيلة اعتمدها من أجل نقل ما يخالجه من أحاسيس وخواطر عاطفية كمعيار يقاس به مدى إمكانية نجاح بلاغة هذه الصور الشاعرية المعبر عنها عن طريق شعر الغزل في فن العيطة البعدية.

بداية لابد من تفكيك عنوان عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، وتوضيح بعض الأحداث التاريخية التي يمكن أن ندرجها ضمن أسباب نزولها في إطارها الزمكاني، والمرتبطة بتدخل الأجنبي في المغرب.

إن القراءة المتأنية في متون شعر هذه العيطة، تؤكد للمتلقي/المستمع "أنها بحق العيطة الوحيدة المنظمة والموضوعة في إطارها الزماني والمكاني، لا ننفي أن كل العيوط الحصباوية العبدية قد خضعت بدورها للتنظيم، ولكن لم نتمكن من ضبط زمانها ومكانها بالتحديد.. فعلا أن مكانها هو منطقة الحصبة ولكن الفترة الزمنية بالتحديد غير واردة في نصوصها، مع العلم أن أغلب العيوط الحصباوية تم نظمها في منطقة عبدة لكن لا يمكن أن نضبط تاريخ ولادتها ولحظة تشكلها واكتمالها". يوضح حسن الزرهوني، وهذا الأمر وجدناه في الحلقات السابقة خلال تقديمنا وشرحنا وتفكيكنا لمتون عيطة "شْرِيفِي سِيدِي حَسَنْ"، رغم أنها محددة زمنيا لكنها غير منظمة بعد تعرضها للإندثار والنسيان والخلط مع متون عيوط أخرى.

وبدون تردد أكد ضيف الجريدة على أن عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، قد حدد فيها الشاعر المكان كما يدل عليه عنوانها "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ" ، وحدد زمانها، أي أنها اكتملت وتشكلت خلال بداية الحرب العالمية الثانية، وتعتبر بالنسبة للعديد من الباحثين والشيوخ كآخر عيطة حصباوية من حيث التركيب والتكوين.

فلماذا بدأ الشاعر بإسم "الجمعة" ولم يبدأ بإسم "الثلاثاء"؟ حيث يجيب قائلا: "لسبب واحد يرتبط بالضرورة الشعرية حتى يأتي الشطر الثاني "السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ" منسجما مع الشطر الأول على مستوى الإيقاع واللحن".

الدلالة المجالية والتاريخية للشطر الأول من عنوان عيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ"

تتربع جمعة سحيم فوق سهل منبسط يتوفر على أرض فلاحية خصبة تتميز بجودة تربتها "التيرس" الغنية بالأملاح المعدنية، وقد ساهمت في تنمية المنطقة فلاحيا وزراعيا رغم أنها فلاحة معاشية بورية، وكانت منطقة جمعة سحيم تابعة لقيادة "الرْبِيعَةْ" بالإضافة إلى "الشْهَالِي" و "الأَضَالِعَةْ" و "الْبْخَاتِي"، ومن أشهر دواويرها سابقا نذكر دوار "زَمْرَانْ" الذي كان يعتبر النواة الأولى لمنطقة جمعة سحيم قبل إحداث سوقها الأسبوعي الذي حمل إسمها، فضلا عن الدواوير المحيطة (أولاد دَاوٌودْ، و شَهْدَةْ، و الْبِيزَانْ، والنْعَاعْمَةْ..).

إن جمعة سحيم قد حملت هذا الإسم مع دخول الإستمعار الفرنسي، مما يمكننا من تحديد الإطار الزمني لعيطة "بِينْ الجًمْعَةْ والثْلاَثْ، السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ"، أي في النصف الأول من القرن العشرين، حيث بدأت فرنسا تسهر على تنظيم الأسواق الأسبوعية في إقليم أسفي.

وبخصوص إسم "الثْلَاثْ" أي مركز "ثْلَاثْ بٌوﯖَدْرَةْ"، (أطلق على دوار سيدي مبارك بوﯖدرة)، فهو إسم حديث العهد مثل جمعة سحيم، كان سابقا تابع لفخذة العامر، وارتقى في عهد الإستعمار إلى مركز محدد، ثم انفصلت عنه في عهد الإستقلال مجموعة من الجماعات في النصف الثاني من القرن العشرين (جماعة سيد التيجي، وخميس نكة، وشهدة، ولمراسلة والعمامرة..). ويرجع إسم "الثْلَاثْ بٌوﯖََدْرَةْ" نسبة إلى الولي الصالح سيدي مبارك بلعامري العبدي الملقب بـ "ضَامَنْ عَبْدَةْ". و ـ حسب بعض الروايات الشفهية ـ فهو من أصول ركراكية، ولد في القرن السادس الهجري وعاصر مجموعة من العلماء و الأولياء والصلحاء منهم الشيخ أبو العباس السبتي، والشيخ أبو محمد صالح الماجري، والشيخ مولاي بوشعيب الزموري.

ويروى عنه أنه كان فقيها وله دراية بعلوم الفلك والطب والكيمياء، وكان له دور اجتماعي تمثل في إيواء وإطعام الوافدين على زاويته، حيث جرت العادة كل يوم ثلاثاء إطعام جميع الزوار وتوزيع الخبز عليهم، خصوصا في فترات الجفاف، وتموين ركب الحجاج المتجه لزاوية الشيخ أبو محمد صالح، و كان كذلك يهيئ الطعام للعابرين بواسطة قدر كبير، ولهذا السبب لقب ب "أَبٌو ﯖدْرَةْ".

في الحلقة الثانية سنتطرق للسياق السياسي والتاريخي من خلال دلالة للشطر الثاني: "...السًكًةْ حَبْسَاتْ وٌرِيتَاتْ".