السبت 27 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (21)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (21) الشيخ سي محمد ولد الصوبة الركراكي ومشهد من ذاكرة قصبة القايد حاجي التي زاتها "أنفاس بريس"

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الباحثين والفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم).

في الحلقة الواحد والعشرين من هذه السلسلة ننشر الجزء الثاني من جواب الباحث عبد العالي بلقايد عن سؤال "العيطة والزوايا أية علاقة؟"، بعدما قدمنا قراءته السابقة في "فهم العلاقة بين العيطة والصلحاء من خلال دور ركراكة". على اعتبار أن الزوايا كانت في إحدى وظائفها "التأطير المجتمعي لصد كل غاصب للأرض.. بمعنى أن العيطة كانت وسيلة جمالية بها وعبرها يتم التأطير كواحدة من وسائل التعبئة المجتمعية". على اعتبار أن "جل الصيغ الفنية للبدايات كانت بأهداف إقتصادية، وتتم ضمن طقوس محددة لأجل تثبيت قيم معينة، لأن الموسيقى لم تكن الغاية منها تزجية الوقت بل كانت تدخل في رهانات المجتمعات".

 

العيطة والزوايا أية علاقة؟

يأتي هذا المنشور كسابقيه دائما في إطار التفاعل مع سلسلة حلقات جريدة "أنفاس بريس"، والتي خصصتها لمجموعة من الموسيقيين التقليديين في علاقتهم مع دور الشرفاء ركراكة، بمنطقة "السبعة رجال"، تحت عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم).

 

ولإيماننا بأن التعاطي مع هذه التيمة يجب أن يتم في إطار البحث عن العلاقات الممكنة بين المؤسسات كتعبير عن حضارة محددة، والتي هي شكل من أشكال الثقافة التي بواسطتها يتم التعبير عن حاجات مجتمعية، وليحصل القليل من هذا، لابد من فتح الأقواس التوضيحية التالية لنقترب شيئا ما من الموضوع.

 

القوس الأول: أن العيطة كموسيقى تقليدية، ومؤسسة الزاوية نمتا ضمن الثقافة الشفوية، وانتقلت إلى الأجيال الموالية عبر الذاكرة، وهذا لا يعني انعدام الكتابة أو التوثيق ضمن المجتمعات التي نشأت فيها.

 

القوس الثاني: أن الموسيقى التقليدية أو الزاوية عرفت امتدادات خارج المغرب وخاصة بإفريقيا بالنسبة للزاوية، وخارج القارة بالنسبة للموسيقى عبر مجموعة من العبيد الذين تم تهجيرهم نحو أمريكا.

 

القوس الثالث: أن كلا الفعاليتان ما كان لينتشرا لولا اعتمادهما على المحسوس وعبر الإحتفال، بحيث أن الزاوية خصصت لتعليم مريديها حلقات الذكر الخاضعة لإيقاع معين، والتي يتخللها الجدب والحضرة، فكان التلقين (الغير المباشر) يتم في جو مفعم بالفرح والسعادة، وهي الميزة التي ميزت العيطة التي ترتبط بالاحتفال كطقس يميز الحضارة المغربية.

 

القوس الرابع: ارتباط كلا الفعاليتين بالبعد الوطني، بحيث أشرنا في منشورات سابقة كيف أن العيطة احتفت بشخصيات شعبية سقطت زمن الدفاع عن الأرض، كما هو شأن الزاوية التي ارتبط الوطنيون بمناخها الفكري في البدايات وكيف أن المجموعة الأولى التي اجتمعت في منزل أحمد مكوار سمت نفسها بالطائفة.

 

القوس الخامس: فإننا حين نبحث في العلاقة بين العيطة والزوايا فإننا لا نقصد بذلك الساكن الذي هو نمط غنائي شعبي لا يرقى إلى المستوى الفني للعيطة التي هي فن مركب تطور عبر مراحل لكي يصل إلى هذا المستوى من النضج الفني في تفاعل مع الشفوية الشعرية المتمثلة في الزجل الذي ظهر كحاجة للحساسية الغنائية إليه (أي إلى زجل).

 

ولعل البدايات الأولى للشفوية الشعرية زامنت العصر المريني، وإن كان البعض يرجع بواكيرها الأولى للعصر الموحدي، ولكن قمة التطور كان في العصر السعدي وهي مرحلة تاريخية تميزت بسعي الشرفاء السعديين إلى خلق دولة مركزية وهو مسعى واجهته الكثير من الكوابح منها خطر الأطماع الخارجية، وجموح القبائل نحو مجافاة المركزية التي كانت ترى فيها فرملة لحريتها.

 

إن هذه المقالات هي مدخل ومقدمة عامة للبحث عن العلاقات المفترضة بين العيطة والزوايا، ليس من زاوية أن الأخيرة أنتجت موسيقاها ليس فقط لغايات تربوية بل كذلك للتماهي مع الموضوع أي ما هو واقع وتحويله إلى أشياء في متناول الذات و جعلها منقادة إليها.

 

إن تحويل الماء الساخن إلى بارد أثناء الجدب هو حلم إلى القبض على الواقع والسيطرة عليه، وهذا شبيه بساحر المجتمعات البدائية الذي كان يقوم بتراتيل وهو مصحوب بتمائمه لغاية التأثير على الطبيعة، فجل الصيغ الفنية للبدايات كانت بأهداف اقتصادية، وتتم ضمن طقوس محددة لأجل تثبيت قيم معينة، لأن الموسيقى لم تكن الغاية منها تزجية الوقت بل كانت تدخل في رهانات المجتمعات.