الأربعاء 24 إبريل 2024
فن وثقافة

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (19)

مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم (19) مشهد من معمار اليمن وفي الصورة الجماعية: الزميل أحمد فردوس مع الأخوين علي وكمال المدرعي رفقة الشيخ ولد الصوبة

تمكن الوباء اللعين "كورونا" من تأجيل موسم طواف شرفاء "ركراكة" برسم سنة 2020، ووقفت الجائحة سدا منيعا ضد قبائل ركراكة والشياظمة وعبدة ودكالة وغيرهم في إحياء سنة التواصل الروحي والاجتماعي والاقتصادي.. وحرمتهم من الاحتفاء واستحضار موروثهم الشعبي وعاداتهم وطقوسهم وتقاليدهم التي ألفوا إقامتها كل سنة في فصل الربيع (بعد خروج الليالي).

 في سفر "أنفاس بريس" والنبش في موضوع ظاهرة موسم طواف "ركراكة" الضارب في القدم، بعد الاستعانة في الحلقة الأولى ببعض المصادر التاريخية التي تناولت "السبعة رجال" والتعريف بهم، وبعلاقتهم بالمجال والإنسان، وكيف استوطنوا الأرض وقاوموا الغزاة، للمحافظة على استقرارهم وأمنهم واستمرار نسبهم، وقدمنا ملخص لمحة تاريخية عن "ركراكة" و"السبعة رجال" والسفر في زمن حروبهم وصراعاتهم مع المحتل والغزاة، وكيف استطاعت القبلية ضمان استمرارها وصولا إلى ترسيخ هذا الموسم السنوي الذي يحج له المغاربة من كل أنحاء الوطن لإحياء صلة الرحم.

 لقد تقاطرت الشهادات والحكايات على جريدة "أنفاس بريس" من أفواه الباحثين والفنانين والمبدعين وشيوخ العيطة وفناني الحلقة، والمنتسبين لأهالي وشرفاء ركراكة، وأبناء القبائل المنتمين لأرض "سبعة رجال"، سواء لتوضيح أو تثمين وتعزيز ما جاء في حلقاتنا السباقة بخصوص سلسلة ملفنا الإعلامي الذي اخترنا له عنوان: (مصب نهر تانسيفت يروي حكايات قبيلة "ركراكة" و"السبعة رجال" بين الأمس واليوم).

في الحلقة التاسعة عشر من هذه السلسلة نقدم الجزء الثاني من حوارنا مع المهندس المتخصص في الحقل البيئي والباحث الأركيولوجي، كمال المدرعي، في محاولة لرصد الظاهرة  الإجابة عن سؤال (ما هي الشروط الموضوعية والتاريخية التي ساهمت في لقاء "السبعة رجال" ركراكة مع الرسول (صلعم) في شبه الجزيرة العربية بمكة).

 

ما هي الشروط الموضوعية والتاريخية التي ساهمت في لقاء "السبعة رجال" ركراكة بالرسول؟

تناولنا في الجزء الأول من الحلقة 18 في حوارنا مع المهندس المتخصص في الشأن البيئي والباحث الأركيولوجي كمال المدرعي بعض الشروط الموضوعية والتاريخية التي ساهمت في لقاء "السبعة رجال" ركراكة بالرسول، وخصوصا على مستوى فهم وإدراك خصوصية المجالين أو الفضائين (شبه الجزيرة العربية  ومنطقة الصويرة).

لقد اتضح أن مدينة الصويرة بحكم أنها شاطئية، و تتوفر على جزر مهمة وغنى طبيعي متنوع، فضلا على أنها كانت تمثل المنتهى للطريق التجاري تومبوكتو والشريان الأساسي للتواصل مع عمق إفريقيا: "لقد تم اكتشاف بقايا أثرية تمثل الحضارتين الفينيقية والرومانية بجزيرة الصويرة"، يقول كمال المدرعي؛ مستندا على مجموعة من الشهادات الأركيولوجية، مما يؤكد تفاعل المنقطة مع محيطها والوافدين عليها برا أو بحرا.

وبخصوص تفكيك وفهم مجال وفضاء شبه الجزيرة العربية خلال نفس المرحلة التاريخية (أي 600 سنة قبل الإسلام) فالأمر يستدعي استنطاق المحيط الجغرافي لشبه الجزيرة العربية ـ حسب ضيف الجريدة الذي أفاد بأن "بجنوب شبة الجزيرة العربية كانت تتواجد المملكة العظيمة سبأ، (اليمن السعيد)".

مملكة سبأ العظيمة -حسب ضيفنا- كانت "إمبراطورية تجارية بحرية قوية ومتقدمة جدا، وكانت تتاجر مع إمبراطورية الحبشة (المملكة المسيحية)، وكذلك تربط علاقات تجارية مع الهند وأيضا مع الصين"، يؤكد الباحث الأركيولوجي كمال المدرعي، على اعتبار وجود "طريق بحري  في المحيط الهادئ الذي كان يسمح لأربع حضارات ( الصين، والهند، واليمن، والحبشة) بالتفاعل والتواصل فيما بينها على المستوى التجاري أساسا".

"الطريق التجاري البحري في المحيط الهادي حول المملكة السعيدة اليمن (مملكة سبأ) رغم الحصار الجغرافي من أقوى الإمبراطوريات وأكثرها تقدما.. لكن للأسف نجهلها بشكل عام بفعل عدة ظروف ذاتية وموضوعية"، يؤكد كمال المدرعي.

أما على مستوى شمال شبه الجزيرة العربية فقد كانت "مقتسمة بين حضارتين وهما حضارة الفرس (أي آسيا الصغرى وما إليها من أوروبا) وحضارة الروم (أي الشرق الأوسط وما إليه)، وبين هذه المناطق الشاسعة امتدت الصحراء (الربع الخالي وصحراء شبه الجزيرة العربية)، لكن ما ميزها هو شريان الطريق التجاري المعروف تاريخيا وهو طريق رحلة الشتاء والصيف"، من هنا يوضح المهندس المتخصص في الحقل البيئي كمال المدرعي بأن "قريش كانوا في الصيف يتوجهون شمالا بتجارتهم مع الفرس والروم، وفي فصل الشتاء يتجهون جنوبا للتجارة مع مملكة سبأ العظيمة (اليمن السعيد) التي كانت بدورها تتاجر مع ثلاثة حضارات أخرى التي ذكرنا وهي حضارات الهند والصين والحبشة".

 

نقطتان حضاريتان كانت تفرق بينهما الصحراء، والطريق الوحيد الذي كان يمر بينهما عبر الصحراء "كان يؤدي حتما إلى مركز تجاري له إشعاعه، ألا وهو مركز مكة"، لماذا؟ يتساءل الضيف ليجيب قائلا: "لأن مكة كانت تتوفر على نقطة ماء حيوية، عبارة عن بئر ماء دائم النشاط، وهو بئر زمزم، وكان مركز مكة يضم أيضا بيت الحج"...

ولاستقراء التاريخ واستنطاق واقع الحال يقول كمال المدرعي: "من المعلوم أنه كان في تلك الفترة من يضع يده على بئر زمزم، ويتحكم في الماء، كان أوتوماتيكيا يضع يده على مركز التجارة بمكة" في تلك المرحلة -حسب إفادته- "طبعا كانت قريش هي التي تتحكم في رحلة الشتاء والصيف التي أمنت حياتهم، على اعتبار أنهم يستقرون في واد غير ذي زرع، (غياب الزراعة والفلاحة.. المنطقة قاحلة)"، لقد تحكمت قريش في ماء بئر زمزم، وبفضل "مياهه وضعت يدها على مركز التجارة بمكة، فتحول مجتمع قريش إلى مجال غني جدا، تتداول فيه إلى جانب التجارة كل التيارات الدينية والفكرية والسياسية القائمة في تلك الفترة التاريخية"، لذلك يرفض كمال المدرعي إطلاق نعث الجاهلية على تلك المرحلة التي كانت تعج بالحضارات الإنسانية "كلمة الجاهلية ليست في محلها" على اعتبار أن الأمر يتعلق "بحضارات وفكر وتجارة وعلاقات اجتماعية واقتصادية وفكرية بشبه الجزيرة العربية وخاصة داخل مجتمع قريش".

في مرحلة الحج كانت مجتمع قريش يتباهى بما يسمى بـ "الرفادة والسقاية، أي بمعنى من سيتحمل مسؤولية إقامة وإطعام وسقي الحجاج الوافدين على مكة كل موسم حج ، وكان بنوا هاشم وهم جزء من مجتمع قريش يطعمون كل الحجاج الوافدين على مكة، مع العلم أن موطنهم كان يتواجد في واد غير ذي زرع، وكانوا يستعدون لشهور لتوفير شروط ذلك".

لذلك فعندما نتكلم عن مجال شبه الجزيرة العربية عامة ومكة خاصة قبل الإسلام نستحضر كل هذه الحضارات والتفاعل معها والتأثير والتأثر بها وفيما بينها، وهي لأن المجال كان صلة وصل ورابط بين أربع حضارات في الجنوب وحضارتين في الشمال كانتا ترتبطا بطريق تجارة الحرير"، يوضح ضيف الجريدة.

 

يتضح أن وسط الصحراء كان "يحج إليه الناس من جميع المناطق، بما فيها شمال إفريقيا كخط تجاري لقوافل كثيرة، (هناك أدلة أركيولوجية تؤكد وجود علاقات مستمرة ودائمة وسنوية لشمال إفريقيا في إطار عمليات الحج والتجارة والتواصل الفكري والديني..)"؛ فضلا على أن "لغة قريش كانت هي السائدة في تلك الفترة ويتكلمها كل من له صلة بمكة وبمركزها التجاري، لذلك فمن المرجح أن الحضارات التي تفاعلت مع مجال شبه الجزيرة العربية قد استعملت لغة قريش بصفتها لغة التواصل والفكر والتجارة".

 

في سياق حديثنا عن مجال شبه الجزيرة العربية أشار الباحث الأركيولوجي كمال المدرعي "أن الفتوحات الإسلامية قد تتبعت بشكل دقيق مسارات وطرق قوافل التجارة المعروفة منذ قرون وقبل ظهور الإسلام في أدق تفاصيلها ومراحلها"، على اعتبار أن شبه الجزيرة العربية كانت "نقطة محورية لمركز تجاري معروف ومهم جدا، وكانت لها علاقات مع الحضارات التي كانت قائمة، وكانت تتحكم في رحلة الشتاء والصيف، ومنفتحة على حضارة الحبشة واليمن السعيد والهند والصين وكذلك انفتاحها على حضارتي الفرس والروم.."

واستشهد كمال المدرعي ببيت شعري من معلقة عنترة بن شداد العبسي ليوضح العلاقة التي كانت قائمة ما بين الهند ومركز مكة على مستوى التبادل التجاري بما فيه الأسلحة قال فيه:

"وَلَقَدْ ذَكَرْتُكِ وَالرِّمَاحُ نَوَاهِلٌ/ مِنِّي وَبِيضُ الْهِنْدِ تَقْطُرُ  مِنْ دَمِي"...

وأكد بأن "بيض الهند تحيل على السيوف التي لا تتعرض للصدئ، وأنها كانت متداولة في شبه الجزيرة العربية".

 

لا مجال للاستغراب في ذهاب ركراكة من منطقة الصويرة، إلى شبه الجزيرة العربية ولقائهم بالرسول (صلعم)، لكونهم كانوا يحجون سنويا إلى مركز مكة لأجل التواصل والتجارة يقول الضيف الذي خلص إلى أن "السبعة رجال الركراكيين الذين ذهبوا للقاء الرسول، وهم على علم بظهور دين حنفي جديد، قد ظهر في شبه الجزيرة العربية، وأن النبي أحمد يدعو له، على اعتبار أنهم رجال دين مسيحيين، وعلى مستوى متقدم من المعرفة والثقافة ويؤمنون بالمسيحية الأولى الحقة التي تضمنتها أناجيلهم الغنوسية التي تحدثت عن نبي اسمه أحمد كرسول قادم".