الخميس 25 إبريل 2024
مجتمع

البروفيسور سعيد هرماس.. قلبٌ بمساحة سماء زرقاء

البروفيسور سعيد هرماس.. قلبٌ بمساحة سماء زرقاء البروفيسور سعيد هرماس (يمينا) والدكتور المنوزي

في العادة حين يسقط أحد المشاهير طريح الفراش تتهافت عليه عبارات المواساة، وتمطر السّماء بحملات الدعم والتضامن، ويتسابق المتطوّعون من أجل التوسّط للمريض كي يستفيد من علاج مجاني بالمستشفى العسكري. حين يسقط الطبيب يتحوّل إلى "نكرة"، يختفي عن الأنظار، يدخل إلى دائرة النسيان.
الطبيب في المجتمع المغربي يُضْرَبُ به المثل في "الجشع" و"الانتهازية"، لذا يسدّد الفاتورة غالية في حالة من حالات ضعفه.
البروفيسور سعيد هرماس، الطبيب الاختصاصي في أمراض النساء والتوليد وسرطان الثدي والرحم، صورة من نكران المجتمع لتضحيات الطبيب. حرب البروفيسور سعيد هرماس ضد سرطان البنكرياس الذي أصيب به حرب يخوضها لوحده في فرنسا. وحيدا كلاجئ في فرنسا منذ أكثر من عام، في "منفى" اضطراري، تاركا عيادته ومرضاه بشارع عبد المومن بالدارالبيضاء. إذا اتصلت بالدكتور هرماس لا تكاد تسمع إلا صوتا واهنا وحشرجة متقطعة.. بلكنته "الرودانية" لا يطلب منك شيئا آخر إلا الدعاء له بالشفاء.
بكبريائه المعهود تسلّل خجولا في صمت إلى فرنسا للتداوي من السّرطان، لم يودّع إلا عائلته الصغيرة ودائرة محدودة من أصدقائه في المهنة وبعض معارفه المقرّبين. مازلت أتذكّر ابتسامة الأمل التي يزرعها في مريضاته الفاقدات للأمل، كانت له طريقة خاصة في اغتصاب الابتسامة منك، وأسلوب فريد في التشخيص و"تقزيم" أشرس السرطانات التي تصاب بها مريضة من مريضاته. لذا ليس غريبا أن تجد عيادته مكتظة.. حين تدخل عيادته -التي يحرص أن يختار ديكوراتها بعناية- يداهمك إحساس بالأمان والأمل.. الألوان الزاهية التي تعكسها جدران العيادة تملأ روحك بالحياة.
بأسلوب ساخر قال لي مرّة:
- آخر ما كنت أتوقعه أن أُصاب بالسرّطان وأنا الذي طالما روّضت أخبث أنواع السرطان!!
القدر يختبرُكَ أحيانا، لكن السّرطان أقسى هذه الاختبارات، لاسيما إذا كنت طبيبا، فالاختبار يكون مضاعفا وفاتورته باهظة جدا. الطبيب الذي يعدو لمسافات طويلة في اليوم ضد الساعة، لا يُمْهِلُه الزمن حتى يلتقط أنفاسه.. يشبه ساعة رمليّة كل يوم تستنزف حبات من عمره.
من يتذكّر البروفيسور سعيد هرماس؟ ربّما لا تتذكّره سوى أسرته، وحلقة صغيرة من أصدقائه الأطباء "الأوفياء".
طرحتَ عليه هذا السؤال من جديد:
- من يتذكّرُ الدكتور هرماس؟
أجاب بصوت مبحوح في الهاتف:
- عائلتي وأصدقائي في المهنة ومؤسسة محمد السادس للنهوض بالأعمال الاجتماعية للتربية والتكوين كعادته، بقلبه الذي يسع سماء زرقاء، يبلّغك أن تقرئ سلامه وشكره إلى جميع من آزروه وساندوه في محنته، يسألُك عن صحّة أمّك التي طرد السرطان من رحمها، وأحوال زوجتك وأبنائك. كعادته، يبدو سخيّا في الدّعاء حتّى وهو في فراش المرض. هذا هو البروفيسور سعيد هرماس سخيّ في كل شيء.. صادق في كل شيء.
- من يتذكّر الطبيب حين يصارع المرض؟
- الدولة التي يسمّن خزينتها بالضرائب.. لا؟
المجتمع.. أكيد لا؟
وزارة الصحة.. أيضاً لا؟
كلية الطبّ… حتماً لا؟
حين نضع طبيبا وبعض أقزام "اليوتوبرز" و"الأنستغرام" على كفتي ميزان، الكفة الأخفّ هي كفّة الطبيب الذي يشبه سقوطُه مثل سقوط ورقة بالية من شجرة تمنح الحياة والأوكسجين.. من منّا لم يدسْ بنعاله على هذه الورقة؟!
فما أحقرَنا.. وأحقر عقوقنا لمَنْ يَهَبُوننا بَلْسَمَ الحياة!!