لقد أضحت المشكلات الاجتماعية عائقا كبيرا في طريق التنمية، وحاجزا حقيقيا ينسف كلّ محاولات التقدم والازدهار، ذلك لما لهذه المشكلات من آثار سلبية ولما تسبّيه من أزمات متتالية، إن على مستوى الفرد أو الجماعة، الشيء الذي يجعلنا نتساءل عن ما قدمه الإسلام في سبيل إيجاد حلّ لهذه المعضلات الاجتماعية كالفقر والهشاشة والبطالة وغياب السكن اللائق وغيرها من المشكلات الحضارية؟
لمعالجة هذا الإشكال الجوهري، لا بد في البداية أن نؤكّد على أهمية الجانب الاجتماعي في الإسلام، وعلى المكانة الكبيرة والعناية الفائقة التي أولاها لهذا القطاع الحيوي، فالآيات حثت على التضامن الاجتماعي وبينت مجالاته وضوابطه وأسسه، والسنة كذلك ندبت إليه وأزالت الغبش عنه، وبينت مبهمه وفصلت مجمله، والجيل الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم تمثّل هذه الدعوة الإلهية فصار قدوة حسنة وأنموذجا صارخا يحتذى به في هذا المضمار.
بل إن استقراء النصوص التي ندبت المؤمن إلى التكافل والتآزر والتعاون ودعت المسلم لخدمة أخيه المسلم، وسد حاجاته ومدّ يد العون له والتوسيع عليه والتصدق والإحسان إليه وتفريج الكرب عنه، يجعلنا أمام كليّ من كليات الشريعة الإسلامية، ومقصد من مقاصد الإسلام العظمى، التي جاءت الشريعة الإسلامية لتقريرها والتمكين لها وحث المسلمين على تمثّلها، هذا المقصد يمكن أن نعبّر عنه بـ : حلّ المشكلات الاجتماعية ضرورة شرعية.
فالشرع دعا لتحقيق العدالة الاجتماعية وإنشاء مجتمع متوازن يضمن العيش الكريم لجميع أفراده، وهذا لا يتأتّى إلا بمحاربة هذه المشكلات الاجتماعية ( فقر ـ هشاشة ـ بطالة ـ ...)، التي يتخبّط فيها كثير من الناس، وتجاوز هذا الحائل المنيع الذي يعوق عملية التنمية، ويتسبب في أزمات نفسية ويرفع معدل الانتحار ويؤدي إلى أفعال إجرامية ويدفع الشباب إلى استهلاك المخدرات هربا من الواقع الأليم، أو ركوب قوارب الموت فرارا من الحاضر المرير.
ولمقاربة هذا الموضوع قدّم الإسلام حلولا رائعة، كفيلة بقطع دابر هذه المشكلات المعضلات، وذلك من خلال منهجية رصينة تقوم على أمرين :
الأمر الأول : من خلال دعوته إلى فعل الخير بشكل عام { وافعلوا الخير لعلّكم تفلحون } و{ وما تفعلوا من خير فلن تكفروه } و { فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره} وتفريج كرب المؤمن { ومن نفّس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفّس الله عنه كربة من كرب الآخرة } والدعوة إلى التآزر والتعاطف والتراحم { مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى } والندب إلى بذل العطايا والصدقات والهبات ومساعدة الناس واعتبار كل ذلك لونا من ألوان عبادة الله تعالى، وصنفا من أصناف التقرّب إليه سبحانه.
الأمر الثاني : من خلال تشريعه مجموعة من العقود والمعاملات التي تهدف إلى إخصاء هذه المشكلات الحضارية والمعضلات الاجتماعية، والنهوض بالمجتمع والتمكين له والاسهام في تطويره، ودونك أخي القارئ كشكولا من العقود والالتزامات التي أحسبها إن شاء الله حقيقة بالقضاء على معظم المشكلات التي تؤرق المجتمع الإسلامي المعاصر وتقض مضجعه، انتقيت منها ما هو غير معروف قصد تبيينه للناس وإعلامهم بدور الإسلام في خدمة الإنسان :
الوقف : ويسمى الحبس وهو تمليك منفعة الشيء مدة وجوده، كتحبيس الدور والبساتين وجعل منفعتها لفائدة الصالح العام، كأن يحبّس شخص مثلا منزلا على طلبة العلم فيستفيدون من السكن المجاني، أو يحبس غلة بستان على فقراء القرية فينتفعون بالثمار وهكذا، وهو أمر مندوب إليه حسن جدا، وله دور مهم في التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
العمرى : والعمرى كما قال ابن عرفة في الحدود : (تمليك منفعة حياة المعطى بغير عوض إنشاء) سواء كانت أصولا كالدور والبساتين أو غيرها كالثياب مثلا. وصورتها أن يقول شخص لشخص : اسكن هذا الدار مدة عمري أو مدة عمرك أنت لوجه الله، وأكثر ما تكون في العقار.
المنحة : وهي إعطاء غلة الحيوان، كأن يجعل شخص لبن ماشيته أو صوفها لشخص آخر ابتغاء وجه الله، وهي من أروع صور التضامن الاجتماعي التي أقرّها الاسلام ورتّب عليها جزيل الثواب.
الإخدام : وإعارة الخادم وقديما إعارة العبد، هو المسمى عند الفقهاء بالإخدام، فقد يحتاج الإنسان في ظرف من الظروف خادما يعينه في عمل ما، لكن لفقره لا يستطيع تسديد أجرة الخادم، فيتطوع أحد الذين بسط الله لهم في الرزق فيرسل خادمه إليه فيساعده على أعبائه على نفقة رب الخادم.
الإرفاق : وهو إعطاء منافع العقار، كأن يُمكّن الجارُ جارَه من الانتفاع بما فضل عليه من مائه الخاص ليسقي به حائطه مثلا، أو يسمح باتخاذ طريق يمر من أرضه لأجل الصالح العام وهكذا.
العارية : وهي تمليك منفعة مؤقتة لا بعوض، كأن يعير إنسان إنسانا آنية أو دابة أو سيارة مدة معينة بغير مقابل لقضاء غرض من الأغراض، وهو أمر مستحب يعود على المجتمع بالنفع العميم.
القرض : أي السلف وهو أن تقرض شخصا مالا أو طعاما أو ثيابا مدة معلومة بشرط ألا يجر منفعة، بل يشترط أن يكون لوجه الله خاصة، وهو مندوب إليه وقد يصير واجبا في بعض الحالات كزمن الجوع والأوبئة، وفيه أجر كبير، فقد روي أن درهم القرض بثمانية عشر درهما، ودرهم الصدقة بعشرة، ذلك أن المقترض لا يقترض إلا عند الحاجة الملحّة، أما السائل فقد يسأل وهو عنده ما يكفيه.
الوصية : وهي عقد بمال يؤخذ من ثلث تركة الوجه، وحكمها الندب، وصورتها أن يوصي شخص لشخص بسدس ماله أو سبعه أو ثمنه إلى حدود الثلث، وهو أمر مستحب يساهم في حل كثير من المشكلات الاجتماعية.
المساقاة : وهي تعهّد شجر بجزء من ثمره، وهي من أنواع المعاملات التي تحارب البطالة وتجسد التضامن الاجتماعي في أبهى حلة.
المزارعة : وهي شركة الحرث وهي نوع من أنواع التضامن الذي يدير العجلة الاقتصادية ويخلق فرصا للشغل.
القراض : وهو تمكين مال لمن يتجر فيه على أساس تقاسم الأرباح، وهو من أبرز العقود التي تحرك الاقتصاد وتعود بالخير الكثير على المجتمع.
لا شك أخي القارئ أنه قد لاح لك ما قدمه الإسلام إسهاما منه في حل المشكلات الإجتماعية، وقد تبين لك من خلال ما عرضت لك ـ وهو جهد مقل ـ أن للإسلام دورا هاما في محاولة إيجاد حلول جذرية لما يؤرق بني الإنسان عموما، وأن كثيرا من القضايا الشائكة كان ممكنا تجاوزها من خلال الرجوع إلى الوصفات الإسلامية التي قدمها لعلاج هذه الأمراض الاجتماعية، لأنه في الحقيقة لا يعالج الأعراض وإنما يبحث عن أصل الداء فيقوم باجتثاته والقضاء عليه من أصله.
وعلى سبيل الختم أأكد على دور الإسلام في خدمة الإنسان، وأنه دين جاء لتنظيم الحياة في كل أبعادها وتجلياتها، وأنه يجعل الإنسان محور اهتمامه، ونجاته هدف أهدافه وغاية غاياته، فتقبّل مني أخي هذه البضاعة المزجاة وتجاوز عما قد يظهر فيها من خلل، فإن الكريم ساتر، وإلا ناصح أمين.
محمد بوعنونو، طالب باحث / تاوريـــرت / المغـــرب.