الجمعة 19 إبريل 2024
فن وثقافة

العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ مستشفى كوكار ومستشفى مورا بفاس وقصة الطب التخصصي بالمغرب منذ 1912 (الحلقة 16)

العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ مستشفى كوكار ومستشفى مورا بفاس وقصة الطب التخصصي بالمغرب منذ 1912 (الحلقة 16) الدكتور كريستياني بين مرضاه من المغاربة بمستشفى كوكار سنة 1913، وفي الإطارين: د. كريستياني (يمينا) ولحسن العسبي

سبق وقلنا إن الدخول إلى فاس لم يكن بفاتورة سهلة عسكريا بسبب الأحداث المسلحة التي شارك فيها جزء من الجيش النظامي المغربي. ما جعل المؤسسة العسكرية الفرنسية المحتلة تستثمر بصفة استثنائية في فرقها الطبية المرافقة لوحداتها العسكرية، من خلال حجم ومستوى الوحدات الاستشفائية المرافقة لها، والتي كانت عبارة عن خيم متنقلة عبر الدواب. واعتبارا لطموح المقيم العام الماريشال ليوطي، إلى جعل الخدمة الطبية وسيلة للاختراق السياسي للمغرب، فإنه زاوج دوما بين تقديم الخدمة الطبية العسكرية والخدمة الطبية للمدنيين المغاربة في مختلف مناطق عبور تلك الخدمة الصحية المتنقلة. لهذا السبب نجده قد أسس في البدايات (1912)، لوحدات الطب المتنقل، التي قدمت خدمات صحية في مجال مواجهة الأوبئة والأمراض الفتاكة حينها بالمغرب، وكان لها أثر ملموس وواضح في الميدان.

 

لكن مع أحداث أبريل 1912، الدموية بفاس، قرر الماريشال ليوطي، اختيار مكان لاستقرار تلك الوحدات الطبية يكون مجالا مخصصا لتقديم خدمات طبية للمغاربة، يكون قطب رحى لانتقال مختلف الشرائح المغربية (مدينية وبدوية) لطلب الخدمة الصحية الفرنسية. فوقع الاختيار على قصبة قديمة  في الشمال الغربي للمدينة، هي قصبة الشراردة، عند أحد مداخل فاس البالي، في شهر غشت 1912. فكان أن ولد عمليا أول مركز طبي (بوسائل كانت متنقلة) بعاصمة المغرب القديمة، خاص بالخدمات الصحية المدنية، إلى حدود سنة 1914، تاريخ اندلاع الحرب العالمية الأولى، حيث تراجعت خدماته المهنية، وأصيب بنوع من الشلل شبه التام، قبل أن يعاد إدماجه سنة 1915، ضمن منظومة الطب العسكري بسبب حاجات الحرب وأحداث شرق المغرب والأطلس المتوسط، ملحقا بإدارة المستشفى العسكري "أوفير" بفاس. ولن يستعيد استقلاله الإداري سوى بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، خاصة مع تأسيس الإطار الإداري بالعاصمة الرباط لمصالح الصحة العمومية ومصالح حفظ الصحة بالمغرب، التي أصبح إداريا تابعا لها.

 

في وثيقة مفصلة طويلة، لمن شغل منصب المسؤول الأول عن ذلك المستشفى، الطبيب العسكري الفرنسي كريستياني (الذي حل بفاس منذ 1910)، نقف على قصة ميلاد تلك المؤسسة الطبية الفرنسية الأولى من نوعها بفاس، هو الذي كانت له سمعة طيبة جدا عند ساكنة المدينة ومحيطها الممتد (كان لفترة معينة طبيبا للسلطان مولاي يوسف). وهو الرجل الذي أقيم له أكثر من تكريم رسمي وشعبي، اعتبارا لسيرته الطبية وسلوكه المهني الرفيع، وعدم تمييزه بين أي بشر لتقديم الإسعاف له وعلاجه (من بين الوثائق المتوفرة اليوم شهادة رفيعة في حقه كتبها الدكتور كولومباني أول مدير للمستشفى العسكري بالرباط ومؤسس المستشفى المدني الكبير بالدار البيضاء في نهاية العشرينات). ومما جاء في تلك الوثيقة الهامة للطبيب كريستياني، أنه قد تقرر إطلاق اسم الممرض العسكري الفرنسي كوكار، الذي سقط قتيلا أثناء أحداث يوم 17 أبريل الدموية بفاس، وأفلت منها هو بأعجوبة، فأصبح يعرف لسنوات طويلة، باقتراح منه، باسم "مستشفى كوكار" (يحمل اليوم اسم مستشفى لسان الدين بن الخطيب).

 

بعد فترة "مغامرة طبية" كما يسميها الدكتور كريستياني، بسبب ضعف الإمكانيات وظروف اندلاع الحرب العالمية الأولى، هددت تلك المؤسسة الطبية في وجودها (كان قد طرح فعليا أمر إغلاقها ونقل معداتها الاستشفائية الأولى إلى المستشفى العسكري "أوفير" في بنايته الأولى قرب "باب الحديد" قبل نقله إلى منطقة ظهر لمهراز). لكن ستعود الحياة إلى أجنحته، بقوة كبيرة ابتداء من سنة 1915. حيث تم تخصيص ميزانية مستقلة لتجهيزه بما كان متوفرا من آليات طبية وصحية، شملت حاجيات قاعات جراحة عصرية معقمة، ومختبرا للتحاليل جديد، وآلات تشخيص للأمراض الصدرية والباطنية، مما سمح بأن ينتقل مستوى خدماته المقدمة إلى درجة احترافية راسخة، منحته أن يصبح موئلا للعديد من المرضى المغاربة ليس فقط من داخل فاس، بل أكثر من مناطقها القروية المحيطة بها. وتحول في ظرف قياسي إلى المؤسسة المتقدمة في مستوى محاربة أسباب الأوبئة المتفشية بفاس ومحيطها، خاصة الجدري والتيفويد ومرض الزهري (وفي مستويات أقل مرض السل). حيث تصاعد عدد المستفيدين من خدماته الصحية في بحر 10 سنوات، ما بين 1915 و1925، من 600 مريض مغربي من المسلمين واليهود، إلى 17 ألف مريض، ضمن معدل ساكنة يتجاوز 230 ألف نسمة (الثلث منهم بالمناطق القروية المحيطة بفاس).

 

مما تؤكده أيضا تلك الوثيقة التاريخية الهامة، أن معدل التحليلات المختبرية، من مختلف الأنواع، قد بلغت مستوى متقدما جدا في العشرينات، تجاوزت 1500 تحليل في الشهر الواحد، وهو رقم قياسي حينها في بلد مثل المغرب، وفي مؤسسة طبية واحدة. مما يترجم أن ساكنة المدينة والإقليم، قد تفاعلت إيجابيا، بدرجات كبيرة، مع الخدمة الصحية الجديدة التي جاءت مع الاستعمار، تأسيسا على ترسخ الوعي المديني عند أهل فاس، وهذا ملمح سوسيولوجي هام، خاصة وأنها واحدة من المدن العتيقة المغربية التي ظلت تتوفر على بناية مستشفى طبي مغربي قديم منذ العهد المريني في القرن 13، هو مستشفى سيدي فرج، الذي بقي يقدم خدماته الطبية حتى سنة 1944. مثلما أن قسم الأشعة الذي أحدث به منذ سنة 1917، بفضل دعم كبير من الدكتور الفرنسي إميل سبيدر (الذي سبق وقدمنا معلومات ضافية عنه من قبل)، من موقعه كمدير عام لمصالح أقسام الراديو والأشعة الطبية بالمغرب، أقول إن قسم الأشعة المحدث به، قد لعب دورا محوريا في تطوير الخدمات الجراحية بذلك المستشفى، ومكنها أن تصبح أكثر فعالية، خاصة على مستوى الأمراض الباطنية، التي كانت تتطلب تدخلا جراحيا مستعجلا. ومن المعلومات الصحية الجديدة، التي اكتسبت عند الفرد المغربي حينها، وغيرت من وعيه بذاته وبصحته، المعلومات المتعلقة بالعمليات الجراحية للزائدة الدودية، وأيضا العمليات الجراحية الخاصة ب "الحصى في المرارة" بكل الآلام التي كانت تصاحب المصاب بها. مما ساهم في تغيير المعرفة الصحية العمومية لدى المغاربة حينها في كبريات مدنه، وبدأت تتشكل بشكل جنيني ما يمكن وصفه بـ "شريحة اجتماعية مدينية متوسطة" بالمغرب بشكل غير مسبوق، بعض من نخبها الشابة هي التي ستؤسس جيل الحركة الوطنية منذ الثلاثينات بوعي مديني حديث.

 

سيتم، بالتوازي، إلحاق مؤسسة طبية فرنسية بفاس، أقدم من مستشفى "كوكار"، بهذا الأخير، كنوع من المؤسسة الفرعية التابعة له إداريا، هي مستشفى الدكتور مورا، الذي أنشأ عمليا سنة 1911، بدرب زربطانة (قريب من الطالعة الصغرى التي تربط فاس العالي مع فاس السفلي، غير بعيد عن مسجد الشط). كانت تلك المؤسسة الطبية، الواقعة بقلب المدينة القديمة (المدينة الإدريسية)، تقدم خدمات طبية متعددة للساكنة المحلية، من ضمنها، ابتداء من سنة 1913، خدمات جراحية، خاصة في مجال أمراض الأذن والفم والحنجرة وكذا أمراض العيون. وبسبب تفشي أنواع متعددة من أمراض العيون حينها (خاصة الرمد)، فإن نسبة من كانوا يلتجؤون إلى خدماته الطبية قد كان كبيرا. ولقد اشتغل مستشفى "مورا" بشكل مستقل، حتى  شهر يونيو 1930، كما تؤكد وثيقة محررة من مديره العام حينها، الدكتور بول غوينادو، حيث اتخذ قرار إلحاقه إداريا بمستشفى "كوكار"، متخصصا فقط في طب العيون وفي طب أمراض الأذن والأنف والحنجرة. مما جعله من أول المؤسسات الطبية العمومية الفرنسية المدنية التخصصية بالمغرب، مكنه من أن يصبح مرجعا طبيا هاما في مجال الخبرة الطبية الميدانية لتلك التخصصات الطبية الدقيقة. وكان ذلك سببا في التحاق عدد من الأطباء المتخصصين في تلك المجالات الطبية بفاس للعمل به واكتساب خبرة ميدانية في ذلك المجال.

 

لقد مكن ذلك القرار التنظيمي إداريا، من رفع حجم العمليات الاستشفائية التخصصية تلك في مدينة فاس لوحدها، في الفترة ما بين 1925 و1935، إلى مستويات قياسية، بلغت 80 ألف عملية استشفائية، 60 ألف منها خاصة بأمراض العيون (ضمنها 30 ألف خاصة بمرض التراخوما الذي سببه بكتيريا تصيب محيط العين)، و20 ألف منها خاصة بأمراض الأنف والحنجرة والفم.  وفي المعدل، فإن سجل العمليات الجراحية المنجزة به إلى حدود سنة 1936، يؤكد أن عدد العمليات الجراحية سنويا يصل إلى 1360 عملية جراحية، ضمنها 850 عملية خاصة بمرض "داء الشعرة" (الشهير عربيا بـ "داء الثعلبة" وهو مرض يصيب فروة الشيء إما لسبب نفسي أو سبب عضوي)، و190 عملية جراحية خاصة بمرض "جلالة" التي تصيب العين وتضعف البصر (الكاتاراكت). وفي سنة 1935 وحدها، نجد أن تلك الأرقام تفيد بتقديم خدمات استشفائية لحوالي 130 ألف مواطن مغربي مسلم ويهودي، قضى أياما بأسرة المستشفى 1310 منهم، وبلغ مجموع الأيام تلك 29 ألف يوم استشفائي. فيما بلغ حجم العمليات الجراحية 1359 عملية جراحية. وهي أرقام كبيرة جدا في تلك المرحلة، تقدم الدليل على مستوى الطلب المغربي على الطب الحديث، مما يقدم المادة العلمية الموثقة على مدى ما بلغه الوعي العمومي للفرد المغربي (المديني) بأهمية الخدمة الطبية العصرية، والتجائه إليها طلبا للصحة والعافية. هنا تغيرت معلومات المغاربة، فتغير وعيهم بذاتهم وبالآخر وبالعالم، وامتلكوا معرفة جديدة، تقدم العناوين على معنى تمثلهم وانخراطهم في شروط الحداثة. ذلك أن امتلاك المعلومة الطبية الجديدة، يؤدي مباشرة إلى تغير في السلوك اليومي للمحافظة على الصحة، وهذا ملمح جديد في المغرب آنذاك.

 

في الحلقة 17: "الدكتور عبد الله منصوري أول طبيب مغربي بفاس متخصص في الأمراض الصدرية والسل سنة 1923")