الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أول راديو طبي حديث عمل بالمغرب للسلطان مولاي عبد العزيز سنة 1913 (الحلقة 5)

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أول راديو طبي حديث عمل بالمغرب للسلطان مولاي عبد العزيز سنة 1913 (الحلقة 5) السلطان مولاي عبد العزيز يتوسط الطبيب العسكري إميل سبيدر (يمينا) والطبيب العسكري الفرنسي الجنرال سبيك وفي اليسار لحسن العسبي

من باب السماء فوقنا، فإن الطب الحديث، لا يستحق صفة "الحداثة" بدون تملك وسائل العمل التقنية، التكنولوجية الجديدة، لتجويد دوره، وأساسا لترسيم فعاليته العلاجية.

 

بالتالي، فإن دخول الطب الحديث إلى المغرب، لم يكن فقط مجرد طواقم طبية (عسكرية بالأساس في البداية)، أو بنايات وأسرة وأدوية وأمصال، بل أيضا، نوعية التكنولوجيا الطبية الحديثة المصاحبة، المساعدة في أن تكون لتلك الطواقم الطبية وتلك البنايات الجديدة (المستشفى) الفعالية المؤثرة والحاسمة. ويأتي في مقدمة تلك التكنولوجيا المساعدة، مدى التوفر على أقسام خاصة بـ "الأشعة" أو ما يصطلح عليه علميا وطبيا بـ "الراديولوجي". والسؤال هنا، هل تم التفكير في إدخال هذه الوسيلة التقنية ضمن استراتيجية الطب الحديث بالمغرب، التي دشنها دخول الحماية (المستعمر) إلى بلادنا، ابتداء من سنة 1912؟. كيف تم ذلك؟ وأين؟

 

تأسيسا على وثيقتين لكل من الطبيب العسكري الجنرال سبيك (التي سبقت الإشارة إليها من قبل)، والطبيب العسكري إميل سبيدر (خريج كلية الطب ببوردو بفرنسا سنة 1909)، فإن إدخال آلات الأشعة الطبية، إلى المغرب، قد تم منذ 1913، وأن البداية كانت بفاس قبل الدار البيضاء، رغم أن أول مؤسسة طبية عسكرية فرنسية أنشأت ببلادنا قد كانت بالدار البيضاء سنة 1911. فكيف توفر مستشفى فاس العسكري، الذي تأسس سنة 1913، على تلك الوسيلة التقنية قبل الدار البيضاء، وضمن أية سياقات تاريخية وتدبيرية؟

 

الحقيقة، إنه لا يمكن الحديث بداية عن إمكانية التوفر على تكنولوجيا طبية مماثلة، متقدمة (في زمنها)، بدون الحديث عن ميلاد الكهرباء أولا بالمغرب. وهذا موضوع بحث آخر، ليس هنا مجاله التفصيلي على كل حال. لكن، ما تمكن الإشارة إليه، هو أن تحقيق فعالية للطب الحديث ببلادنا منذ 1911، قد ارتبط بتوازي أمرين مؤثرين وحاسمين، هما: الشروع في إنجاز شبكة للكهرباء (اعتمدت في البداية على الفحم الحجري، ثم على الطاقة المائية في ما بعد)، والشروع في إنجاز شبكة للماء الشروب، مكنت من القضاء على الكثير من أسباب التلوث التي منها كانت تتولد العديد من الأوبئة والأمراض.

 

هكذا، فإن دخول الكهرباء (التي كان لها أثر حاسم على الممارسة الطبية الحديثة بالمغرب كخدمة عمومية)، قد تم في البداية عبر استقدام مولدات كهربائية تعمل إما بالفحم الحجري أو الغاز وبعضها حينها بالغازوال قليل، قبل بناء المركبات الحرارية المنتجة للطاقة الكهربائية بالمدن الكبرى ابتداء من العشرينات من القرن الماضي. بالتالي، فإن الطب العسكري الفرنسي، الذي كان جزء من البنية المصاحبة للدخول العسكري الفرنسي لاحتلال المغرب، منذ 1911، قد وفر كل الإمكانيات اللوجيستية لتيسير عملية ذلك الاحتلال، بميزانيات مستقلة وضخمة.

 

كيف تم إذن تجاوز كل معيقات إدخال تلك التكنولوجيا الطبية الجديدة إلى المغرب؟

 

هنا مهم العودة إلى التفاصيل المتضمنة في الوثيقة التي حررها الطبيب العسكري الفرنسي الجنرال سبيك، التي يقول في صفحتها السابعة، إنه بعد تعيينه طبيبا رئيسيا بالمستشفى العسكري الجديد بفاس في يناير 1913، وانتقاله إليه من الدار البيضاء ضمن قافلة عسكرية، قطعت المسافة بين المدينتين في 7 أيام، وجد أن تمة حاجة ملحة للتوفر على آلة للأشعة، بسبب حجم الإصابات التي كانت ترد عليه من الجنود الفرنسيين المصابين ضمن معارك احتلال محيط فاس في اتجاه تازة وصفرو، ثم في اتجاه آزرو والحاجب وميدلت. فكان أن همس أحدهم إليه أن الحل ربما كامن في استخراج "راديو للأشعة" كان السلطان مولاي عبد العزيز قد اشتراه باقتراح من الطبيب الصيدلي الفرنسي "فيير" سنة 1903، ووضعه بقصر بوجلود لتجريبه واستيعاب فائدته العلمية، من خلال تطبيقات على العاملين داخل القصر، تمكن من امتلاك معلومات نهائية حول الفائدة من اقتناء آلات طبية مماثلة، بغاية توفيرها بعد ذلك في ما كان يطمح إليه من تحديث لخدمة الصحة والطب بالمغرب، ضمن مشروعه الإصلاحي الأكبر الذي عرف بـ "الإصلاحات العزيزية" (بالمناسبة تؤكد الكثير من تفاصيل وثائق تاريخية أن هذا السلطان قد ظلمته المصادر التاريخية الفرنسية لأسباب سياسية عدة ليس هنا مجال الحديث عنها، ما يجعل المتتبع يكاد يجزم أنه كان سلطانا مغبونا ومظلوما تاريخيا).

 

التقط الطبيب الجنرال "سبيك" المعلومة، وشرع في البحث عن ذلك الراديو الطبي، فكان أن وجده مفككا في صندوقين خشبيين بإحدى زوايا "باب الماكينة" (أي مصنع الأسلحة القديم الذي بناه السلطان مولاي الحسن الأول بمساعدة من ضباط وعسكريين إيطاليين في النصف الثاني من القرن 19). فتم نقله إلى مستشفى فاس العسكري، الذي أطلق عليه في البداية اسم "مستشفى أوفير"، وطلب من ميكانيكيين عسكريين فرنسيين إعادة الحياة إليه وتشغيله. الأمر الذي نجحوا فيه، حيث تمت إعادة تشغيل ذلك الراديو الإشعاعي الطبي، وقدم نتائج محمودة سهلت كثيرا مهام الطبيب الفرنسي العسكري الجراح، الجنرال "سبيك"، كما كتب يقول. مضيفا أن تلك الآلة قدمت خدمات مهمة حتى أثناء حرب الريف بقيادة البطل المغربي محمد بن عبد الكريم الخطابي، حيث كان عدد المصابين بجروح وكسور من الجنود الفرنسيين كبيرا. فكان، بالتالي، أول جهاز "راديو إشعاعي طبي" بالمغرب هو جهاز السلطان مولاي عبد العزيز وبأموال مغربية خالصة. ذلك بعض من مكر التاريخ على كل حال.

 

ثاني جهاز طبي مماثل، لن يدخل إلى المغرب، وبالضبط إلى المستشفى العسكري بـ "السور الجديد" بالمدينة القديمة للدار البيضاء سوى ثلاث سنوات بعد ذلك، أي في سنة 1916. هنا سنستند على وثيقة ثانية هامة، تتضمن معلومات تفصيلية دقيقة، للطبيب العسكري الفرنسي إميل سبيدر، صاحب المجلة الطبية "المغرب الطبي" في الثلاثينات من القرن الماضي. حيث كتب يقول، إنه في سنة 1916، كان المغرب يتوفر فقط على آلتين للراديو الإشعاعي الطبي مستقدمتين من فرنسا (عدا راديو مولاي عبد العزيز بفاس)، واحدة في الدار البيضاء والأخرى في مكناس. وبسبب كونها من النوع القديم، فقد كانت تتطلب زمنا قبل أن تجود على الطبيب بنتائجها، إلى أن صادف ذات يوم في شهر مارس 1917، أن جاء الجنرال غورو (بصفته مقيما عاما جديدا بالمغرب، عوض الماريشال ليوطي، بسبب تعيين هذا الأخير وزيرا للدفاع بباريس، أثناء الحرب العالمية الأولى، وهو التعيين الذي لم يدم سوى شهورا قليلة، قبل أن يعود لمنصبه بالرباط)، في زيارة تفقدية إلى المستشفى العسكري الفرنسي بالدار البيضاء، وامتعض من المستوى الهزيل لآلة الراديو الإشعاعي، فكان أن تدخل الطبيب سبيدر، بصفته المشرف عليها (حتى ومهمته الرسمية هي الإشراف على عمليات التلقيح ضد الجدري ومرض الزهري ببوسكورة)، ليؤكد لذلك الجنرال، أنه سبق وأرسل تقريرا مفصلا إلى مكتبه بالرباط حول إلحاحية استقدام نوع جديد من آلات الراديو الإشعاعي، مع تحديد كلفتها.

 

استغرب الجنرال غورو، كيف أنه لم يعرض عليه ذلك التقرير بالرباط، وبعد البحث تبين أنه تقرير لم يغادر أصلا درج مكتب المدير العام للمستشفى العسكري بالدار البيضاء. أربعة أيام بعد ذلك، جاءت الموافقة من الإقامة العامة بالرباط مع تخصيص ميزانية استثنائية سريعة بلغت 50 ألف فرنك فرنسي (قديم)، لشراء آلات راديو طبية جديدة من فرنسا. شهرا ونصف بعدها وصلت الأمانة عبر ميناء الدار البيضاء قادمة من ميناء مارسيليا. وفي شهر يونيو 1917، دخلت تلك الآلة مجال الخدمة، بالتوازي مع قرار الجنرال غورو ترقية الطبيب الفرنسي الشاب (الطموح) إميل سبيدر، ليس فقط رئيسا لقسم الراديولوجي بالدار البيضاء، بل الطبيب الرئيسي لمصلحة الراديولوجي الطبي بكامل المغرب في شقيه العسكري والمدني. فكانت النتيجة أن تم تزويد المستشفيات العسكرية الفرنسية، في ما بين 1917 و1918، بآلات راديو إشعاعي طبي حديثة، بكل من مدن الرباط، فاس، مكناس، مراكش، تازة ووجدة. وبعد عشر سنوات، أي مع حلول سنة 1928، أصبح المغرب يتوفر في مدنه الرئيسية هذه، على ذات تجهيزات الراديو الحديثة (ضمنها الأجهزة السينية فوق الحمراء) المتواجدة في كل المستشفيات الجامعية بفرنسا، مما شكل خطوة جبارة في تحديث خدمة الطب والصحة بالمغرب حينذاك، خاصة على مستوى معالجة أمراض دقيقة، لم تكن أبدا تخطر على بال المغاربة ولا كانت جزء من وعيهم الطبي والصحي، مثل أمراض السرطان. لقد تغير الوعي العام للمغاربة من خلال ما أصبحوا يحتكون به من معلومات جديدة، ضمنها المعلومة الطبية، وهذا تحول كبير في الوعي. بينما تم تعميم أجهزة الراديو الإشعاعية الأولية (غير السينية) بمراكز الصحة بمدن وادي زم، قصبة تادلة، ورزازات، أرفود، ميدلت، آسفي، الصويرة، الجديدة، القنيطرة، وزان. وتم في الآن نفسه، استقدام شاحنات عسكرية وسيارات مدنية طبية مجهزة بأجهزة راديو إشعاعية متنقلة، كانت تتجول عبر المناطق القروية وعبر الأسواق الأسبوعية.

 

(غدا في حلقة جديدة تقرؤون: "افتتاح أول مستشفى للمغاربة المسلمين واليهود بالدار البيضاء سنة 1917")