Saturday 10 May 2025
كتاب الرأي

عبد الصمد الشنتوف: أنا ابن أبي

عبد الصمد الشنتوف: أنا ابن أبي عبد الصمد الشنتوف
 خرجت من البيت في هدوء ثم أدرت المفتاح بإحكام. شعرت برغبة المشي تستعر بقوة في ثنايا نفسي. لبثت أسير على الرصيف متأبطا صمتي، أسير وحدي بلا وجهة، كزورق يمخر عباب البحر بلا بوصلة تهديه. كان الوقت مبكرا. الشوارع شبه مقفرة، ومعظم المحلات مغلقة. أما الطقس فكان جد غائم ومضبب، إذا مددت يدك في الفراغ لا تكاد تراها. 
وفجأة، التمعت في ذهني حكاية الأديب عبد المجيد بنجلون "البرد في إنجلترا". نص درسناه في المدرسة حينما كنا صغارا، يصف فيه أحوال الطقس والضباب في بريطانيا.
يوم الأحد، الناس لا تشتغل في لندن. بعضهم يرتاد الكنائس صباحا لترديد ترانيم إنجيلية، لكن أكثرهم منغمسون في ملذات الحياة، يركضون وراء الجنيه الإسترليني اكثر من اي شيء آخر. لا يلتفتون للدين إلا لماما. منذ مجيء مارغريت ثاتشر إلى الحكم والوضع الاقتصادي في تصاعد ملحوظ. لقد استطاعت المرأة الحديدية ببراعتها أن تنتشلهم من الفقر وتخلصهم من شتى الأزمات، إلى درجة أنه لم يعد يجري على لسان الإنجليز اسم يسوع المخلص إلا حين تحل بهم النكبات. ومع ذلك تراهم لا يتورعون عن شتم السيدة ثاتشر. قلت في نفسي، لو كانوا في بلدنا لرماهم فقيه السلطة بالجحود ونكران فضل الحاكم عليهم، أو على الأقل سيعتب عليهم قائلا: عليكم اللعنة أيها المساخيط، كيف تأكلون الغلة وتسبون الملة. والويل لمن تلفظ باسم الحاكم عاريا من كل عبارات التفخيم والتبجيل ناهيك عن انتقاده أو شتمه. عندئذ، ستكون نهايته حتما مأساوية ومعروفة.
أذكر يوما، كان رجل مجنونا يتسكع في شوارع المدينة، فقادته قدماه إلى داخل مقهى سنطرال. توقف هنيهة، ثم لبث يحدق طويلا في صورة الحاكم المثبتة على الجدار كما لو كان يراه لأول مرة. سرعان ما انتفض وطفق يوجه شتائم لاذعة للصورة بأعلى صوته. تم إخبار المسؤولين في الحين. وما هي سوى لحظات حتى حضرت الشرطة على جناح السرعة، ليتم القبض عليه والزج به وراء الشمس لسنين عديدة. اختفى الرجل تحت السرداب في لمح البصر، دون أن يشفع له حمقه ولا جنونه. هكذا كان الوضع في البلد خلال الثمانينات يا سادة!
هنا في بريطانيا، الناس عموما ليسوا متدينين، ولا يخشون الحاكم. هم منشغلون بدنياهم فقط غير عابئين بأمور الغيب والآخرة. عكس ما يحدث تماما في المشرق.
بمجرد أن وصلت محطة لانكاستر، انتابني شعور يشبه الدوار، هدني التعب فاستويت فوق كنبة خشبية لأستريح قليلا. عندما أمد بصري تجاه أفق بعيد أرى أشجار الدلب الوارفة ومساحات خضراء تكتسح حديقة هايد بارك الشهيرة، فتسري انتعاشة في أوصالي. نظرت نحو السماء متطلعا إلى جهاتها الأربع أبحث عن الشمس فلم أعثر إلا على دهشتي. بسبب كثرة الغيوم لا أعرف جهة مطلعها ولا جهة مغيبها. لم أر الشمس منذ بضعة أيام. على حين غرة، تراءى أمامي أحد علماء الفلك يشرح ظاهرة الكسوف: إذا اختفت الشمس أكثر من ثلاثة أيام فهذا مؤشر غير جيد، ممكن أن تتوقف الجاذبية وبالتالي تحجم الكواكب عن الدوران فتكون نهاية العالم. سينايو مخيف أربكني كثيرا، مما دفعني إلى الالتصاق بالكنبة متمسكا بخشبها. الحديث عن نهاية العالم كان دوما يرعبني. تملكني فزع شديد. خفت أن أموت في أرض النصارى فيتم دفني في قبر مجهول يعلوه صليب أبيض كبير. ليس هناك أسوا من أن تظل منفردا في قبر مظلم إلى يوم البعث دون أن تزورك أمك. 
أبي كان دائم التوجس من السفر إلى اوروبا، ولديه دائما ما يكفي من المبررات كي لا يغادر أرض الوطن. في البداية كنت أظن أنه يهاب ركوب الطائرة، لكن تبين لي فيما بعد أنه كان يخشى أن يتخطفه الموت هناك فيصلى عليه داخل كنيسة. فكرة كاهن يقرع الناقوس ثم يتلو عليه ترانيم الإنجيل بلغة لاتينية كانت تزعجه كثيرا، أما فكرة دفنه في مقابر النصارى فتكاد تصيبه بالجنون أو بانهيار عصبي على الأقل.
تأكد لي في الأخير أنني أشبه أبي كثيرا، وأبي يشبه جدي "هاريز " رغم إصراري المستمر على نفي ذلك. وما هي إلا دقائق معدودة حتى غادرت مكاني إلى وجهة أخرى. مضيت أسير سير الهادئ المطمئن وسط أشجار هايد بارك المخضرة، فيما قلبي يهمس في خفوت: أنا ابن أبي ..أنا ابن أبي…