الجمعة 19 إبريل 2024
اقتصاد

رضا الفلاح: المراجعات الخمس التي تنتظر الاقتصاد المغربي بعد أزمة كورونا

رضا الفلاح: المراجعات الخمس التي تنتظر الاقتصاد المغربي بعد أزمة كورونا رضا الفلاح
تعيش الدول اليوم على وقع مواجهة أزمة كورونا وما بعدها وعينها على المنحى السلبي الذي تأخذه المؤشرات الاقتصادية و تدهور الأوضاع الاجتماعية وارتفاع البطالة و تهاوي الدخل الفردي بشكل عام. في هذا السياق، وتأسيسا على رسملة التجربة الراهنة في تدبير الأزمة الصحية وفي بيئة دولية مطبوعة بعولمة الأزمات ومضاعفة التهديدات، يقبل المغرب على مواجهة أزمة اقتصادية واجتماعية تفرض إعادة النطر في اختيارات  التنمية الاقتصادية والاجتماعية ورسم أولويات استراتيجية جديدة قائمة على أساس تحقيق السيادة الاقتصادية في مجالات متعددة من أجل تعزيز الاستعداد والجاهزية لمواجهة التهديدات والمخاطر القائمة و المحتملة.
السيادة أولا و أخيرا 
السيادة الغذائية : يحتم تدبير السيادة الغذائية على المغرب وضع أهداف ملموسة على مستوى الأمن الغذائي عبر التوجه تدريجيا نحو تحقيق الاكتفاء الذاتي في الحبوب و التراجع عن تصدير المنتجات الستهلكة للماء مثل الطماطم و الحوامض خاصة أن المغرب يوجد من ضمن البلدان المهددة بالفقر المائي وفقا لعدة تقارير صادرة عن هيئات وطنية و دولية. عموما، تقتضي السيادة الغذائية توجيه الإنتاج الفلاحي المغربي نحو احتياجات الطلب المغربي و العمل على تطوير القيمة المضافة لصادرات الصناعة الغذائية بالموازاة مع إبرام عقود منصفة مع الفلاحين الصغار من أجل الرفع من مداخيلهم.
السيادة الصناعة: أولوية وضع لبنات بنية صناعية منسجمة كأرضية لإرساء مقومات السيادة الصناعية في المجالات الحيوية التي ترتبط بالحفاظ على الحياة و على البيئة و حقوق الأجيال المقبلة. يشمل ذلك السيادة الصحية بما في ذلك القدرة على مرونة التكيف من أجل صنع معدات طبية و أدوية مغربية، و تنفيذ برامج طموحة للذكاء الاقتصادي و تطوير إمكانيات بشرية و علمية و تكنولوجية من أجل الرفع من القيمة الصناعية المضافة بالاعتماد على مقاربة مندمجة للإقلاع الاقتصادي بدلا من المقاربات القطاعية المنغلقة. و هو ما يتطلب  الرفع من الاستثمار العمومي في القطاع الاجتماعي و بالخصوص في الصحة و التعليم و البحث العلمي و التطوير التكنولوجي بالإضافة إلى تخصيص برنامج وطني لتدارك التأخر التكنولوجي Rattrapage Technologique وتحفيز العمل على نيل براءات الاختراع.
خمسة ركائز كبرى
في سياق مواجهة تداعيات الأزمة الراهنة على الصعيد الوطني، وفي أفق تصميم النموذج التنموي الجديد، ترتسم ضرورة القيام بتحول باراديغمي Paradigm Change صريح في هيكل الاقتصاد المغربي يرتكز على خمسة ركائز رئيسية:
1- العدول عن توجيه الاقتصاد المغربي بشكل مفرط  نحو التصدير في إطار تقسيم دولي للعمل يستفيد منه الرأسمال الأجنبي و لا يحقق استقلالية القدرة على التحكم في سلسلة الإنتاج الوطني و سلسلة تثمين القيمة Chaine de valeur.  في المقابل، يتحتم تحويله إلى اقتصاد قائم على الاستجابة للطلب الداخلي مع إطلاق حملة وطنية لتحسيس المواطن المغربي بإيجابيات استبدال الطلب على المنتوجات المستورَدة بالرفع من الطلب على المنتوج الوطني و تمييز هذا الأخير بعلامة أو رمز. إن الاستمرار في الارتهان إلى الاستثمارات الأجنبية يتعارض مع مقومات تحقيق هذا التحول الضروري إذ ينبغي الاعتماد بشكل أساسي على الرساميل المغربية التي باستطاعتها الانخراط إلى جانب الدولة و الأبناك  و أرباب الصناعة الوطنية في مشروع وطني تعاقدي يهدف إلى تمويل الاستثمارات المُنتجة في القطاع الفلاحي و الصناعي و التكنولوجي في انسجام مع أهداف السيادة الاقتصادية.
في نفس الإطار، يجب وضع استراتيجية وطنية لتشجيع المقاولة المغربية المواطِنة التي تراعي في المرتبة الأولى حقوق عمالها و مأجوريها الذين هم في نفس الوقت جزء مهم من الطلب الداخلي المُراد تشجيعه، و سيحقق المغرب حينذاك هدفين بطلقة واحدة، تقليص التبعية إلى الرأسمال الأجنبي و في نفس الوقت عدم الارتهان إلى الطلب الخارجي من الأسواق التقليدية في سياق التوجه نحو تقوية الشراكة الاقتصادية مع شركاء جدد غير تقليديين و في مقدمتهم دول البريكس BRICS
2- لقد كشفت أزمة كوفيد 19 عن الجذور العميقة التي تغذي الأزمات الاقتصادية على صعيد عالمي، وهي عِلاَّت كامنة في الإيديولوجية النيوليبرالية و إيديولوجية العولمة. إن ما قيل عن عودة الدولة الاجتماعية خلال التصدي للأزمة الراهنة لا ينبغي أن يكون فقط توجها لحظيا و مؤقتا، بل من الضروري بالنسبة للمغرب استثمار هذا التوجه من أجل استرجاع التحكم في المؤشرات الماكرواقتصادية وجعلها في خدمة السيادة الاقتصادية وهذا يقتضي القطع بشكل نهائي مع دوغمائية التوازنات المالية و بنود ما يعرف بإجماع واشنطن والتي فرضت نوعا من القداسة على سياسات التقشف و دفعت نحو خفض الإنفاق العمومي في القطاعات الاجتماعية. سيكون من الضروري القيام بمراجعة باراديغمية للإطار الفكري والإيديولوجي لما يعرف بالأورثودوكسية المالية Orthodoxie Budgétaire التي تسهر على إنفاذه مؤسسات بروتون وودز Bretton Woods Institutions (صندوق النقد الدولي و البنك الدولي).
بدأ ينمو الاعتقاد في الوسط الفكري بأن الخروج من قبضة الأزمة البنيوية للاقتصاد المغربي يستدعي تحمُّل الدولة والمؤسسات العمومية و الجماعات الترابية لمسؤولية التحفيز الاقتصادي Relance Economique بواسطة اللجوء إلى رافعة الإنفاق العمومي وتوجيه الطلب نحو المقاولات و الشركات المغربية بواسطة المشتريات العمومية Commande Publique. سيكون الدَين العمومي الداخلي سندا ضروريا لإنجاح التحفيز الاقتصادي لكن شريطة توجيهه عن طريق النظام البنكي و المستثمرين المؤسساتيين نحو تمويل استثمارات منتجة للثرورة و قادرة على خلف مناصب شغل في النسيج الاقتصادي والمقاولاتي المغربي، و هو ما سيبعث على التخفيف من أزمتي العرض و الطلب في آن واحد.
في صلب  هذا التوجه نجد نموذجا اقتصاديا يهدف إلى خدمة اقتصاد منتج للقيمة المضافة، تنافسي و قادر على تلبية الحاجيات الوطنية وتعويض الاستيراد Substitut à l’importation. في المقابل، ينبغي تجنب اللجوء إلى المديونية الخارجية من أجل تمويل الاستيراد و خاصة الواردات غير الضرورية والعالية الكلفة، أو التي يمكن تعويضها بالمنتوجات المصنعة محليا، خاصة في ظل وجود عجز هيكلي في الميزان التجاري المغربي.
3- إعادة التفاوض بصدد اتفاقيات التبادل الحر: لقد حان الوقت للخروج من موقع الطرف الضعيف في اتفاقيات التبادل الحر التي انخرط فيها المغرب منذ حوالي ثلاثة عقود ودعوة الشركاء إلى مراجعة كل هذه الاتفاقيات التي استفادت منها الدول الأخرى خاصة تركيا والصين ودول الاتحاد الأوروبي عن طريق إدخال تعديلات تسمح بتطبيق سياسة حمائية ذكية أو تأهيلية Protectionnisme éducateur حسب تعبير المنظر الاقتصادي الألماني فريديريك ليست Friedrrich List  كوسيلة فقط و ليست كغاية في حد ذاتها في إطار تعاقدي بين الدولة و الفاعلين الاقتصاديين حول تحقيق أهداف محددة على مستوى الجودة والمردودية واحترام المعايير الاجتماعية و الصحية و البيئية، و خلال فترة زمنية محدودة. والهدف المنشود هو تحقيق درجة من الحماية و الدعم للقطاعات و الصناعات الناشئة من أجل تقوية تنافسية النسيج الاقتصادي المغربي وتعزيز قدرته على التباري المنصف في حلبة التبادل الحر. ما يعزز من صحة وجدوى هذا الطرح كون جميع الدول التي استطاعت الرفع من تنافسيتها الاقتصادية وخلق القيمة المضافة طبقت في الفترات الأولى من إقلاعها الاقتصادي سياسات تجارية تغلب عليها الحمائية، ونذكر منها كوريا الجنوبية و دول جنوب شرق آسيا. 
4- على مستوى السياسة النقدية، يُطرح اليوم سؤال مهم حول الدور الذي يمكن لبنك المغرب أن يلعبه باعتبار أن السياسة النقدية شأن سيادي وذو تطبيقات سيادية فيما يتعلق بتصميم وتنفيذ السياسة الاقتصادية. لماذا يبقى دور بنك المغرب منحصرا في الحفاظ على استقرار الأسعار في الوقت الذي تتجه فيه اليوم معظم البنوك المركزية بما في ذلك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي و البنك المركزي الأوروبي إلى الرفع من ضخ السيولة في اقتصادياتها؟ من هذا المنطلق، يستطيع بنك المغرب أن يلعب دورا مهما في تحفيز الاقتصاد المغربي و دعم التشغيل و تشجيع الاستثمارات المنتجة عبر شراء المديونية العمومية Dette Publique للتخفيف منها وتوجيهها نحو خلق الثروة وفرص الشغل والرفع من القدرة الإنتاجية والتصديرية للاقتصاد المغربي في إطار تعاقدي مع الدائنين سواء كانوا أبناكا تجارية أو صناديق استثمارية أو مستثمرين مؤسساتيين. في هذا الصدد، يذهب العديد من المحللين الاقتصاديين إلى إمكانية تجاوز المقاربة الأورثودوكسية لاستهداف معدل التضخم خاصة و أن أزمة الطلب الداخلي ستفضي إلى حدوث انكماش في الأسعار Déflation des prix.
في إطار سياسة اقتصادية مندمجة قوامها الاستثمار المُنتج، من شأن ضخ السيولة بشكل متُحكم فيه في الاقتصاد المغربي وما قد يترتب عن ذلك من ارتفاع طفيف في معدل التضخم  أن يخفف من عبء المديونية العامة والخاصة ومديونية الأسر وأن يُنشط مستويات الاستهلاك الداخلي وأن يدفع نحو تحريك الأموال الراكدة والمتراكمة بفعل الممارسات الاقتصادية الريعية Comportement Economique Rentier وفقا لتجارب دولية منها تجربة أوروبا في حقبة الثلاثين سنة المجيدة Trente Glorieuses عقب الحرب العالمية الثانية.
5- إن تمويل الدَين العمومي الموَجَّه نحو الإنفاق العمومي المنتج ينبغي أن يكون مصحوبا بسياسة ضريبية تستجيب لمعايير العدالة و الإنصاف والكفاءة عن طريق احتسابها بشكل تصاعدي وإقرار الضريبة على الثروة وعلى المداخيل الكبرى ومراجعة بعض الاختيارات الضريبية التي تشجع على مظاهر اقتصاد الريع، مع إشراط الحوافز الضريبية بمدى المساهمة في الإيرادات وإحداث فرص الشغل المستدامة طبقا لما جاء في التقرير الأخير للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي الذي يحمل عنوان “نظام جبائي: دعامة للنموذج التنموي الجديد”. تشكل مرحلة التعلم من الأزمة ظرفية ملائمة لتنزيل ورش العدالة الجبائية المنصوص عليه في الفصل 39 من الدستور، وبالاعتماد على زخم التوصيات المتقاطعة التي جاءت في هذا التقرير، وتلك التي أفرزتها المناظرتين الوطنيتين الثانية والثالثة سنتي 2013 و2019 على التوالي.
إن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ليست مرتبطة فقط بالأزمة الصحية. إنه الجزء المكشوف من جبل الجليد لأن أصل الداء يكمن في طبيعة النموذج التنموي المغربي وعلاَّته. تمثل الأزمة الراهنة لحظة مفصلية تستدعي القيام بمراجعات كبرى في مجال الاقتصاد السياسي من أجل فتح الطريق أمام فرص جديدة انطلاقا من استخلاص العبر والتجارب.
وفي هذا السياق، تتضح اليوم أكثر من أي وقت مضى أهمية المشروع الاجتماعي والاستثمار في القطاعات الحيوية بالنسبة للمستقبل وفي مقدمتها التعليم والصحة والبحث العلمي وتحفيز الإبداع والابتكار وربطه بأهداف تحقيق السيادة الاقتصادية وتقليص التبعية للأسواق الخارجية.
 
رضا الفلاح، أستاذ القانون الدولي الاقتصادي بجامعة ابن زهر بأكادير