الجمعة 29 مارس 2024
فن وثقافة

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أول بناية طبية حديثة افتتحت بالدار البيضاء سنة 1911 (الحلقة 3)

لحسن العسبي: كيف ومتى دخل الطب الحديث إلى المغرب؟ أول بناية طبية حديثة افتتحت بالدار البيضاء سنة 1911 (الحلقة 3) أول مستشفى حديث بني بالمغرب سنة 1912، بالدار البيضاء، وهو مستشفى عسكري فرنسي (وفي الإطار لحسن العسبي)

لو انطلقنا من سؤال مركزي: متى بنيت أول بناية استشافئية حديثة بالمغرب، بمقاييس الطب العصري؟ وأين؟ سنجد أن الجواب هو سنة 1911، بالدار البيضاء. حتى وإن كانت بعض المصادر تذهب إلى أن تجارب استشفائية قد ظهرت بطنجة قبل هذا التاريخ، لكنها تجارب خاصة ظهرت في سياقات تاريخية مختلفة سأعود إليها بتفصيل لاحقا. وقد يطرح سؤال معرفي تاريخي: لماذا الدار البيضاء، إذن، وليس طنجة وتطوان التي بنيت بها مستشفيات حديثة منذ نهاية القرن 19؟

 

يعود السبب إلى أمرين: أولها أن سياقات ميلاد تلك المستشفيات الأوروبية بمدن الشمال قد جعل خدماتها مقتصرة على الجاليات الأجنبية؛ ثانيها أن ميلادها لم يكن ضمن مخطط احتلال استعماري مثلما أصبح عليه الحال بالدار البيضاء منذ 1907، حيث إنها أول مدينة سقطت في يد القوات الاستعمارية الفرنسية، 5 سنوات قبل فرض الحماية سنة 1912. بالتالي، كان طبيعيا، بمنطق الأمور أن تظهر به المدينة عدد من المصالح الخدماتية الجديدة، بمرجعية "نظام المدينة الحديث"، الذي تبلور في أروبا منذ القرن 16، ضمنها خدمة التطبيب والصحة. فالسياقات مختلفة، إذن، بين التجربة الطبية في مدن الشمال تلك وبين تجربة ميلاد الطب الحديث بالدار البيضاء.

 

هذا يقودنا إلى أن نطرح سؤالا آخر: ما هو نوع الطب الحديث الذي تم إنشاؤه بالمغرب، وبالدار البيضاء تحديدا؟

 

الجواب، إنه الطب العسكري. اعتبارا لأن المؤسسة الأولى المنظمة التي باشرت عملها بالمدينة المغربية تلك، هي مؤسسة الجيش الفرنسي المحتل. ما يجعلنا نخلص منذ البداية إلى أن الطب الحديث قد تم تأسيسه بالمغرب من قبل قوة خارجية، وأنه كان بمنطق الأمور، طبا عسكريا. وأول الملاحظات المسجلة بخصوصه، أنه كان في بداياته الأولى، للأسف، "طبا عنصريا" إذا جاز لنا هذا التوصيف، لأنه خصص في شهوره الأولى فقط للجنود الفرنسيين وللساكنة الأوروبية بالمدينة القديمة للدار البيضاء، ولم يكن مفتوحا أمام المواطنين المغاربة من المسلمين واليهود (عدا المتعاونين الأوائل منهم مع القوة العسكرية الفرنسية تلك وأقاربهم). وكان لا بد من انتظار سنة 1913، بسبب انتشار وباء التيفوس (التيفويد) بالمدينة وبمحيطها القروي الشاسع، كي يشرع لأول مرة في تقديم الخدمات الطبية العلاجية والوقائية لكل ساكنة المدينة، بسبب أن سرعة انتشار ذلك الوباء قد جرفت الساكنة الأوروبية أكثر من الساكنة المغربية المحلية، لأسباب مناعية.

 

لتدقيق المعلومات، في هذا الباب، عثرنا على وثيقة هامة، عبارة عن تقرير عسكري للطبيب العسكري الفرنسي الجنرال ألبير إرنست سبيك (عاش ما بين 1875 و1942)، يقدم فيه معلومات دقيقة عن واقع الصحة العمومية بالمغرب، ما بين 1912 و1932، من موقعه كأول طبيب جراح عسكري عمل بالدار البيضاء وفاس والرباط، وتدرج في مهامه الطبية والإدارية حتى عين سنة 1932 مديرا لقطاع "الصحة العمومية بالمغرب".

 

حين حل هذا الطبيب العسكري بالدار البيضاء، قادما عبر سفينة حربية من ميناء مارسيليا في بداية 1912 (قبل توقيع معاهدة الحماية يوم 30 مارس 1912)، سيلتحق بما يصنف كأول مستشفى حديث بالمغرب، هو المستشفى العسكري الفرنسي الأول بالمدينة القديمة، الذي كان عبارة عن براريك مبنية من الخشب، بتجهيزات شبه بدائية، لكنها غير مسبوقة بالمغرب.

 

أنشئ ذلك المستشفى في نهاية 1910 وبداية 1911، بمنطقة "السور الجديد" بالمدينة القديمة، داخل باحة مسورة بأسوار عالية، كانت مخصصة منذ عهد السلطان العلوي سيدي محمد بن عبد الله، الذي أعاد بناء الدار البيضاء في القرن 18، ما بين سنوات 1765 و1772، بعد أن دمرها زلزال لشبونة الشهير سنة 1755 (تسبب في تسونامي بحري حينها). أقول، كانت باحة مخصصة لنزول "محلة السلاطين" حين عبورهم من المدينة في طريقهم من مراكش إلى فاس، ومن جنوب المغرب إلى شماله. ففي تلك البقعة الأرضية ولدت أول تجربة طبية استشفائية حديثة بالمغرب على الإطلاق سنة 1911، وولدت مؤسسة طبية عسكرية فرنسية.

 

كانت بناية المستشفى عبارة عن  براريك متراصة من الخشب، مزدوجة الحيطان الخشبية، مبنية بشكل متين، بأعمدة صلبة، وأرضية مبلطة من السيراميك، مغطاة بصفائح متموجة مزدوجة خضراء. لكنها بدون كهرباء، ولا وسائل تدفئة أو تهوية، مما جعل وسائل التعقيم بها بدائية، وكانت وسائل الإنارة تتمثل في مصابيح تعمل ببخار الكحول، كانت بالكاد تسمح بإضاءة غرفة العمليات الجراحية لإجراء عمليات مستعجلة بليل. وكانت وسيلة التخدير الوحيدة المستعملة هي "الكلوغوفورم"، التي كانت أبخرتها مع بخار الكحول تتسبب في انتشار غاز مهيج ضار بالمريض وبالطبيب والممرضين. فيما كانت عملية التعقيم تتم بمساعدة مصابيح زجاجية كاربونية تخلف آثار سواد دائم وكثيف. ولقد كان حينها هو "المستشفى" الوحيد الذي يعتمد في كل التدخلات الطبية الاستعجالية العسكرية، بالنسبة للاحتلال الفرنسي، ما فرض عليهم عدم فسح المجال لمعالجة المدنيين، عدا الأوروبيين المقيمين بالمدينة القديمة. وسيضاف إليه جناح صغير، عبارة عن بناية خشبية تضم 8 أسرة متواضعة، مخصصة للولادات الأوربية فقط، وكانت تستعمل 8 كراطين مقواة، جهزت بأثواب بيضاء نظيفة وقطنية، لوضع المواليد الجدد بداخلها، اتقاء للبرد القارس خاصة في فصلي الشتاء والربيع.

 

من التفاصيل التي توقف عندها مطولا، الطبيب العسكري، الجنرال سبيك، حادث نقل عدد كبير من الجرحى العسكريين عبر الباخرة، إلى ذلك المستشفى ليلة أعياد الميلاد (24 دجنبر 1912)، استقدموا من مدينة الصويرة، حيث أصيبوا هناك في مواجهات مع قبائل الشياظمة وحاحا، بمنطقة "دار القاضي". كان عددهم يصل إلى 140 جريحا، جعلته يقضي ليلة بيضاء في مداواتهم، وإجراء عمليات تدخل جراحي سريعة على أكثر من 47 منهم، في ظروف طبية غير مساعدة بالمرة، جعلت ذلك الضابط الطبيب يخرج بخلاصة قائلا: "كان ذلك أول امتحان ميداني لي في معنى الطب العسكري أثناء الحرب، أفادني كثيرا أثناء الحرب العالمية الأولى، حين التحقت بجبهات القتال في فرنسا سنة 1916".

 

الحدث الثاني الهام، هو تفشي وباء التيفوس بالمغرب، وبالدار البيضاء ومحيطها القروي، الذي تزامن مع إنشاء أول مستشفى مدني بالمغرب والدار البيضاء، ملحق بالمستشفى العسكري بـ "السور الجديد" للمدينة القديمة، بذات شكل بنائه الخشبي، وأطلق عليه اسم "المركز الصحي للأهالي المغاربة المسلمين واليهود"، في صيف 1913. كانت أولى أعراض مرض التيفوس القاتل قد ظهرت في شهر أكتوبر، وكان من أول ضحاياه طبيب عسكري زميل له (سبقه إلى الدار البيضاء منذ 1909) هو الدكتور روفيلوا. علما أنه شهرين بعد ذلك انتقلت إدارة المستشفى العسكري الفرنسي إلى الرباط، كي تصبح واحدة من الإدارات الطبية المركزية إلى جوار الإقامة العامة الفرنسية، فيما بقيت إدارة الصحة المدنية في الدار البيضاء، ولن تنتقل إلى الرباط سوى سنتين بعد ذلك. مما يعني أن البنية الطبية والإدارية للصحة، سواء في شقها العسكري أو شقها المدني بالمغرب، قد رأت النور بالدار البيضاء، قبل أن تتوسع إلى الرباط، ثم فاس (1913) ومكناس (1914)، ثم مراكش (1915).

 

كانت سنة 1913، من السنوات العجاف فلاحيا بالمغرب، بسبب جفاف قاس، انتهت بتفشي مرضين كبيرين فتاكين، هما وباء التيفوس ووباء الجدري دفعة واحدة. بالتالي، فقد انتقلت العدوى إلى داخل الدار البيضاء بسبب العدد الهائل من البدويين المغاربة المهاجرين إليها هربا من الجوع والجفاف. ومن أسباب تفشيه -كما يقول الجنرال سبيك- ذلك الكم الهائل من القمل الذي كان يسكن أطراف أولئك المهاجرين، مما جعل كل ساكنة المدينة القديمة مغاربة وأوروبيين ضحايا غزو ذلك القمل وبالتالي سرعة نقله للعدوى بينهم. فكانت أول القرارات العسكرية التي قادها طبيب عسكري فرنسي آخر، هو الدكتور بروون (منحدر من منطقة الألزاس)، هي فرض إلزامية التلقيح ضد مرض الجدري، وشرع رفقة فرقة عسكرية فرنسية كل عناصرها من الألزاس في تطويق الأحياء بالمدينة القديمة، حيا بعد حي، وشرعوا في تلقيح المواطنين المغاربة من المسلمين واليهود بالقوة بيتا بيتا، وعائلة عائلة. وكانت لازمته التي يطلقها في وجوههم هي "بسيف" (حتى لقب بالدكتور بسيف). فكانت النتيجة الطبية، التي أبهرت المواطنين المغاربة، هي سرعة تعافيهم وشفائهم من مرض الجدري ووقف تفشيه بينهم، فاكتشفوا أن الطب الحديث الفرنسي ليس أبدا سيئا كما كانوا يعتقدون، فانفتحوا على التطبيب الحديث بدليل ارتفاع عدد زياراتهم ل "المركز الصحي للأهالي". كان ذلك تحولا في الوعي، عبر تلقي معرفة طبية جديدة عليهم، وأن المحتل ليس بالضرورة سيئا دوما. خاصة بعد تراجع عدد ضحايا الجدري وتراجع عدد الذين يتسبب لهم في العمى.

 

أما وباء التيفوس، فإنه لم تحقق مواجهته ذات النجاح، حينها، بسبب عدم اكتشاف لقاح فعال ضده حتى سنة 1934، فكانت النتائج كارثية، بلغت حد أن مصالح حفظ الصحة الحديثة العهد بالمدينة القديمة، كانت تمر على الأزقة، كل صباح باكر، بعربات تجرها خيول كي تحمل الجثث الجديدة التي توضع عند عتبات البيوت أو تلك التي تتوفى في الأزقة وحيدة. وأصبحت عمليات الدفن تتم في قبور جماعية خارج أسوار المدينة عبر باب مراكش في الطريق صوب مديونة (التي تعرف أيضا بـ "طريق مراكش").

 

(في الحلقة الرابعة تقرؤون: "معهد باستور بطنجة المغبون والمظلوم منذ 1910")