الثلاثاء 23 إبريل 2024
كتاب الرأي

محمد الريفي: التعليم عن بعد وسؤال التربية

محمد الريفي: التعليم عن بعد وسؤال التربية

لعله من نافلة القول، التأكيد على أن المدرسة ببعدها المكاني والاعتباري تأخذ حيزا تربويا كبيرا في حياة الأبناء، فهي المكان الذي يتعامل فيه المتعلم مع أقران يشابهونه في العمر والاهتمامات والثقافة والسلوكيات، وكل هذه عوامل مؤثرة وصانعة في شخصية الطفل المراهق، إضافة إلى تعامل المتعلم مع المدرس باعتباره مصدرا للمعلومة أو ميسرا للوصول إليها، كل هذا يترك أثره في شخصية الطفل.

 

إن واقع الحالة الوبائية التي يعرفها العالم بسبب انتشار وباء فيروس كورونا "كوفيد-19" عجل برياح التغيير، ووضع بلايين البشر حول العالم وجهًا لوجه أمام منظومة "التعليم عن بعد". وفرض ضرورة سلك منعطفات أخرى، وتبني استراتيجيات وأساليب كانت بالأمس القريب من باب التشهي البيداغوجي والفضول الرقمي فأصبحت من أوليات المسالك لضمان استمرارية بيداغوجية.

 

لا مراء في أن التعليم عن بعد له إيجابيات عديدة و فضائل محمودة كما ونوعا، ومن ثم كان من السذاجة رده و الإعراض عنه، لكن في المقابل لا ينبغي أخذه على علاته وهناته، من هنا تنبري مجموعة من الأسئلة، من قبيل: هل النجاح في التعليم عن بعد هو نجاح في التربية؟ هل التعليم عن بعد مسعف في اكتساب المتعلم للقيم الشرعية والحقوقية والكونية للإنسان؟ بلغة الأرقام، كيف سيقضي المتعلم -المغربي مثلا- حوالي ألف ساعة تقريبا التي كانت مجالا تداوليا وفضاءً رحبا لكثير من التفاعلات السوسيولوجية والسيكولوجية والسيكو بيداغوجية التي أسست لجملة من القيم الأخلاقية وحقوق الإنسان؟ هل الأسرة قادرة على تعويض هذا الفراغ؟ أليس التركيز فقط على المعارف -وهو الغالب في مجال التعليم عن بعد-هو انحدار نحو بناء الإنسان الآلة بدل الإنسان الإنسان؟

 

طبعا ليس القصد من إثارة تلكم الأسئلة دعوة إلى التيئيس و تثبيط العزائم والدعة عن المبادرة والفعل، بل هي إلماعات  يراد لها أن تكون بساطا للتداول وأرضية للتعزيز والإغناء. حتى لا نقع في الداء ونحن نريد الدواء.

 

قبل الدلف إلى حيثيات الموضوع وتفاصيله، والتزاما بالمنهجية العلمية، لابد من تجلية مفردات المقالة، ذلكم أن الحكم على الشيء فرع عن تصوره .

 

التعليم عن بعد

التعليم عن بعد Distance Learning هو أحد طرق التعلم العصرية ويعتمد أساسا على قيام المدرس بإلقاء دروسه من الفصل الافتراضي، ويستقبل المتعلم الدرس وهو في بيته أو في مدينته، أو في أي مكان من العالم، ويفتح الفصل الافتراضي أمام الجميع للمناقشة التفاعلية والمشاركة الفصلية بشكل يحقق الفائدة لكل الطلاب من أي مكان في العالم (1).

 

التربية

تتعدد تعاريف الفلاسفة وعلماء النفس التربوي لمصطلح التربية بتعدد زوايا النظر إليها، لكنها في محصلتها  تقود إلى ضرورة نموّ الفرد في جميع جوانب شخصيّته، وتسيربه نحو كمال وظائفه عن طريق التكيّف مع ما يحيط به، ومن حيث ما تحتاجه هذه الوظائف من أنماط سلوك وقدرات.

يحددها دور كهايم بقوله: هي الفعل الذي تمارسه الأجيال الراشدة على الأجيال الراشدة على الأجيال الصغيرة التي لم تصبح بعد ناضجة ومؤهلة للحياة الاجتماعية (2).

من جهة أخرى، يعرفها الإمام الغزالي في كتابه أيها الولد، حيث بين أن التربية هي الفارق والفاصل بين الإنسان والحيوان، فهي الأساس والمنطلق والضرورة في صلاح الفرد وفي صلاح المجتمع، والسبيل إلى تحقيق التمدن والسعادة للإنسان والارتقاء من الحيوانية إلى الإنسانية (3).

يفهم من ذلكم، أن التربية مشروع مجتمعي و استثمار تنمويي خدم الفرد والمجتمع، ولا سبيل إليه إلا بمحددات ومعايير تشمل شخصية المتعلم في أبعاده المختلفة معرفيا ونفسيا ومنهجيا وقيميا وسلوكا.

 

التربية والتعليم عن بعد.. أية علاقة؟

إن أزمة القيم التي تنخر جسد المجتمع المغربي خاصة هي في أحد أسبابها راجعة بالأساس إلى حالة الإفراط والتمادي في إشباع منابع الإنسان المادية على حساب باقي الجوانب الأخرى، وهو ما يؤدي إلى حالة من عدم التوازن بين مكونات الشخصية الإنسانية، فتبرز تبعا لذلك ظواهر اجتماعية مدمرة، كالسرقات والغش ومظاهر الفساد بأنواعه. وإذا كان هذا مفتقر في التعليم الحضوري بخصائصه التربوية والبيداغوجية والديداكتيكية، فهو من باب أولى في التعليم عن بعد، الذي يتم التركيز فيه بالدرجة الأولى  على المعارف النظرية التي يصعب معها وبها صناعة الإنسان المواطن الصالح القادر على الارتقاء بذاته أولا، وتحقيق البعد التنموي لمجتمعه ثانيا .

يقول فتح الله كولن في كتابه "ونحن نبني الحضارة": التكنولوجيا ليست نورا وضياء لجميع المجتمعات (4)، بمعنى أن عمليات التنزيل والتفعيل لكل مشروع إصلاحي لاسيما ما كان له وشيج تعلق بالفكر والثقافة، ينبغي أن تسبقه حالة من الاستعداد و القابلية  لذلكم وإلا كان وبالا على الأمة،

ومن جهة أخرى، ينبغي أن نكون صرحاء مع أنفسنا، ونقرر بالضبط ماذا نريد من المنظومة التعليمية سواء الحضورية أو عن بعد؟ هل نريد تعليما معرفيا وعلميا وتقنيا تأهيلا لسوق الشغل ويكون هذا من أولياته؟ أم أننا نريد فضلا على ذلكم تكوين "الشخص المواطن" المتشبع بقيم الفضيلة والكرامة والحرية المحصن ضد الاستلاب الفكري والغزو الثقافي .

 

من هذين المنطلقين، نحتاج لتوازن كبير بين التربية والتعليم من حيث الكمية والنوعية، ونحتاج لنظم تعمل على التمازج الدقيق بينهما، ليكون الإنسان لدينا نتاج تمازج متوازن.

إن الانحياز للنتاج الأحادي على الرغم من أهميته ، إلا أنه منزع خطير، فإن المعرفة والعلم والتقنية مهما بلغت من الإتقان والعبقرية، من دون نتاج تربوي أو بنتاج تربوي سيئ، مآله كثير من العنصرية، والاحتقار، والشعور بالاستعلاء وما ينتج عن كل هذا من تصرفات وقوانين ونظم، ستؤدي إلى دمار كبير على البشرية كلها، فالتربية هي واحدة من ضمانات احترام الإنسان لأخيه الإنسان.

 

علينا أن نصل إذا إلى تجسير الوثاقة بين التربية والتعليم، بين المعرفة والقيم، بين الإنسان والآلة، لأن الأولى تضمن الاحتفاظ بالخصوصيات الثقافية والقيمية، وعدم الاغتراب في الأنساق الثقافية الوافدة، والثانية تؤمن السياقات العلمية والمنهجية لمواكبة مستجدات العصر  وتغيراته، استمدادا وإمدادا.

 

من أجل ذلك، هذه بعض المقترحات حول سبل مد الصلة بين التعليم عن بعد وبين المقومات التربوية والقيمية :

- تعزيز النموذج البيداغوجي المعتمد وتكييفه مع الخصائص التربوية والبيداغوجية للتعليم عن بعد؛

- توسيع الخريطة المعرفية للبرامج والمقررات التعليم والتكوينية بإدماج البرمجيات التربوية الإلكترونية، وتعزيز التعلمات المستندة إلى البرامج الرقمية (5)؛

- إدماج المقاربة القيمية والحقوقية في صلب المناهج وبرامج التعليم عن بعد؛

- الحرص على تحقيق التوازن بين مختلف أبعاد الشخصية الإنسانية؛

- التفكير في صيغ عن بعد لترسيخ البعد التربوي والقيمي إلى جانب التعليمي والمعرفي؛

- إحداث مراصد وطنية وجهوية تطلع برصد وتتبع قضايا السلوك المدني داخل منصات التعليم عن بعد، ومواكبة مناهج وبرامج التربية القيمية، وتقييم آثارها على مستوى الفاعلين التربويين والمتعلمين وشركائهم؛

- تقوية الروابط المباشرة والتواصل المنتظم مع الأسر ومؤسسات المجتمع المدني، وإشراكهم في الفعل الثقافي التدبيري؛

- إدماج تكوينات جديدة للفاعلين التربويين في مجال تدبير التربية القيمية والمدنية وحقوق الإنسان؛

- التفكير في صيغ أخرى للتقويم عن بعد لا سيما المتعلق بالقيم.

 

- محمد الريفي، أستاذ العليم الثانوي التأهيلي

 

لائحة المصادر والمراجع:

(1) محمد حسن العمايرة (1999)، التربية والتعليم في الأردن منذ العهد العثماني حتى عام 1977 (الطبعة الأولى)، الأردن: دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة، صفحة 43.

(2)عبد الكريم غريب: المنهل التربوي ، معجم موسوعي في المصطلحات البيداغوجية والديداكتيكية والسيكولوجية ص 845.

(3) محمد فتح الله كولن: ونحن نبني الحضارة"، الطبعة الثانية، دار النيل للطباعة والنشر، 2011م، ص 7.

(4) أبو حامد الغزالي(505ه)، "أيهالولد"، الطبعة الرابعة، دار البشائر الإسلامية، 2010م، ص 43.

(5) الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المدرسة المغربية 2015-2030، ص 57.