الجمعة 19 إبريل 2024
كتاب الرأي

أحمد الحطاب: فرصة من ذهب بالنسبة لبلادنا!

أحمد الحطاب: فرصة من ذهب بالنسبة لبلادنا! أحمد الحطاب

شكرا لفيروس كورونا! شكرا لهذا المخلوق الضعيف تَرْكِيبَةً والخطير بيولوجياً. لكن هذه الخطورة هي التي دفعت البشريةَ إلى الخروج من غفوتِها وبالأخص لاكتشاف أن لديها ما يكفي من العقل والذكاء لمواجهة الصعوبات والأزمات.

 

هذا هو ما حصل في بلادنا في زمان كورونا. حيث تفجَّرَ الإبداع والابتكار اللذين كانا لا يجدان منفذا للظهور لأسباب متعدِّدة وعلى رأسها الإرادة السياسية القوية النابعة من حب الوطن. والإبداع لا تُمْطره السماء. إنه يأتي بعد جُهدٍ جهيد في ممارسة البحث العلمي.

 

وهنا، لا بد من التذكير بأن البحث العلمي، كرافعة للتنمية وكوسيلة للرقي والحضارة، لم يأخذ، مند استقلال البلاد، نصيبَه الكافي من الاهتمام من طرف الحكومات المتعاقبة على تدبير الشأن العام. بل يمكن أن نقول وبدون تردُّدٍ إن البحث العلمي، على امتداد أكثر من 60 سنة، لم يحظَ بالإرادة السياسية التي يستحق. بل إن البحث العلمي كان متروكا لحاله ليس له أثر على الإطلاق على السياسات العمومية وبالتالي، في ميزانيات الدولة إلى غاية بداية التسعينيات. كل الأبحاث التي كانت تتِمُّ بالجامعات، كانت بمبادرة من الأساتذة الباحثين وبالتالي، لم تكن مُترتِّبةً عن أية برمجة أو تخطيط أو استراتيجية وبتمويل ضعيف جدا يُستَخْرجُ من ميزانيات تسيير هذه الجامعات وبعيدة كل البعد عن متطلبات التنمية للمحيط الاجتماعي والاقتصادي.

 

وفي بداية التسعينيات، وبالأخصِّ في نهايتها، أصبح للبحث العلمي بند في القانون المالي مخصَّص لتمويل هذا الأخير لكن بدون رؤية واضحة، أي بدون إرادة سياسية طوعية ومُعلنة بمعنى أن كلَّ ما يروج من حديث في الأوساط السياسية والحكومية ليس إلا تصريح بالنوايا لا أقل ولا أكثر.

 

وقد حدثَت تحرُّكات في بداية الألفية الثالثة لكنها، رغم بعض الإيجابيات، لم ترقَ إلى المستوى المطلوب لا من حيث الإرادة السياسية ولا من حيث التمويل ولا من حيث الاستراتيجية وربط البحث العلمي بالسياسات العمومية ليصبحَ فعلا وحقيقةً رافعة للتنمية الاجتماعية، الاقتصادية والثقافية. ولا كذلك من حيث هيكلتِه على المستوى الوطني وخاصّةً على المستوى الجامعي ليبلغ الكتلةَ الحرجةَ masse critique  وتكون له فعالية.

 

من نقائص البحث العلمي في بلادنا، التمويلُ وانعزالُه عن حاجيات المحيط الاجتماعي، الاقتصادي والتكنولوجي.

 

فيما يخصُّ التمويل، فإنه يأتي بنسبة عاليةٍ من السلطات العمومية وأكثر من 80% منه تذهب إلى رواتب الباحثين والأساتذة الباحثين علما أن النسبة المتبقِّية لا تكفي لتمويل أنشطةَ البحث العلمي على الصعيد الوطني. وسببُ ضُعف هذا التمويل له علاقة، من جهة، بضُعف نسبة الناتج الداخلي الخام التي تُخصِّصُها الدولةُ للبحث العلمي والتي لم تتجاوز مند عشرات السنين 1% من هذا الناتج. وهنا، لا بد من الإشارة أن نجاعة البحث وتطوُّرَه يقتضيان أن تتراوحَ هذه النسبة بين 1 و3%.

 

ومن جهة أخرى، إذا كانت نسبة الناتج الداخلي الخام التي تُخصِّصُها الدول المتقدمة (غربية وأسيوية) للبحث العلمي تفوق 2% وقد تصل في بعض الدول (إسرائيل) إلى أكثر من 4%، فالسبب في ذلك يرجعُ إلى مساهمة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي وبنسبة عالية (أكثر من 70% في اليابان والولايات المتحدة وأكثر من 50% في التحاد الأوروبي).

 

أما بالنسبة لبلادنا، فمساهمة القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي منعدمةٌ وحتى إذا حدثت، فإنها تبقى محتَشِمةً إلى حد بعيد. وهذا هو السبب الذي يجعلُ التمويل العمومي غير كاف.

 

السؤال العريض الذي يفرض نفسَه هو: لماذا لم و لا يساهم القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي؟ هنا بيتُ القصيد!

 

القطاع الخاص لا ينفقُ المال من أجل الإنفاق! ينفِقُ المالَ إذا تراءت له في الأفق منفعة وربح. وبعبارة أخرى، لن يساهمَ القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي إلا إذا ضمنَ، من جهة، وقعَه على تطوُّرِه ونُموِّه، ومن جهة أخرى، إذا تمَّ تشجيعُه على الإقدامِ على هذا التمويل. وأحسن وسيلةٍ لهذا التشجيع هي التحفيزات الضريبية، أي إحداث تسهيلات ضريبية تجعلُ القطاعَ الخاص يتحمَّسُ للمساهمة في تمويل البحث العلمي.

 

ولتُصبحَ هذه المساهمةُ فعليةً ومطبَّقةً على أرض الواقع، لا بد من نص قانوني يوضح حيثيات هذه المساهمة. إلى حدِّ الآن، لا تتوفر بلادنا على هذا النص بل لا تتوفَّر على نص يؤطر البحث العلمي بصفة عامَّة وعلى الصعيد الوطني. النص الوحيد الذي له علاقة بالبحث العلمي هو القانون الأساسي للأساتذة الباحثين الذي تجاوزته الأحداث ولأنه يقتصِر فقط على الوضع المادي لهؤلاء الباحثين وعلى عدد الساعات التي عليهم أن يخصِّصوها لعملية التعليم ولا شيء مذكور عن الوقت الذي يجب أن يُخصَّصَ للبحث العلمي.

 

لهذا، عَنْوَنْتُ هذه التدوينة بـ: "فرصة من ذهب بالنسبة لبلادنا!"

 

أتمنى صادقا أن تكونَ الحكومة الحالية قد استخلصت ما يكفي من الدروس من الوباء الذي بيَّن وبوضوح أن بلادنا لها كفاءات تُمارس بحثا علميا من مستوى عالي، بحث تكلَّ بإبداعات وابتكارات هي الأخرى رفيعة المستوى.

 

وإذا كانت المواطنة و حب الوطن هما اللذان شكلا حافزا قويا لهذه الابتكارات، فإنهما غير كافيين على المدى المتوسط والبعيد.

 

فلا بد أن تكون للحكومة الحالية ولتلك التي ستأتي بعدها رؤية واضحة حول البحث العلمي وعلى المدى البعيد. وعليها كذلك أن تُعيدَ النظرَ في تمويله و تعمل على إيجاد الظروف الملائمة لتشجيع القطاع الخاص على المساهمة في هذا التمويل.

 

البحث العلمي، كما هو الشأن في البلدان المتقدمة، يجب أن يُصبحَ رافعةً فعليةً للتنمية البشرية، الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية والتكنولوجية وذلك بربطه بالسياسات العمومية وإعطائه الأولوية ضمن هذه السياسات.

 

فهل من آذان صاغية!

 

- أحمد الحطاب، مدير سابق للبحث العلمي