السبت 20 إبريل 2024
فن وثقافة

في رحيل عبد الصمد دينية.. رثاء في مقام مديح، كم حلت بين الناس وبينه

في رحيل عبد الصمد دينية.. رثاء في مقام مديح، كم حلت بين الناس وبينه عبد المجيد فنيش والراحل عبد الصمد دينية
ترحل يا عبد الصمد، في زمن الرحيل الهادئ، دون مراسيم في حجم الخطب، ولا سرادق عزاء يستوعب آلاف الهمم التي كان من البديهي أن تشيع الجثمان إلى مثواه الأخير في الدنيا، نحو اتجاه جنة الخلد حيث النعيم جزاءاً لما تركت من علم في فنون ينتفع به، وهو صدقة جارية منذ أن قلت أول كلمة لك، وخطوت أول خطاك في الدراما المغربية، إلى أن لقيت اليوم ربك الكريم.
تغادر يا عبد الصمد، وقد تركت خلفك عالما دراميا متكاملا موسوما بأصالة معرفية وجمالية مجادلة لثقافات الناس جميعا، ومنفتحة عليها متفاعلة معها، وأنت الذي أخرجت بعض روائع كلاسيكيات المأساة عند شكسبير (عطيل)، وفي نفس الآن - ومع نفس الفرقة الفقيدة العزيزة (المعمورة) - تخرج خالدات الكوميديا الإنسانية مع "العلم" موليير، وذلك عبر "المعلم" الفقيد أحمد الطيب العلج، وأخريات مقتبسات مستنبتات، أو مترجمات لآخرين.
رحلتك يا عبد الصمد في حياة الإخراج، جابت دروب مختلف أجيال وحساسيات الكتابة الدرامية المغربية لفائدة جماهير العروض الحية، مع كتاب من أمثال الفقيد عبد الكبير الشداتي.. و... و...
ومع عبد الحق الزروالي كانت لك يا عبد الصمد محطة ذات معنى جميل، في سياق بديع، من خلال مسرحية "عتقو الروح" التي  قدمت فيها يا عبد الصمد الوجه الآخر لعملتك الدرامية، المتمثل في مهنيتك التجريبية المتحررة من ضوابط الدراما التقليدية التي أنجزت فيها أجمل أعمال المسرح المغربي وأساسا مع فرقة "المعمورة".
كانت محطتك مع الزروالي مؤلفا، وعبد الوهاب الدكالي ملحنا، سنة 1997. وقد كنت أنا، محدثك اللحظة، محظوظا بالمشاركة في هاته التجربة كممثل إلى جانب  عبد الله العمراني رحمه الله، محمد بلهيسي، لطيفة أحرار، خلود البطيوي، الزروالي، ورفيقتك/شريكة حياتك الممثلة السيدة نعيمة الوادني التي نسأل الله لها والأبناء جميل الصبر والسلوان.
ومع الفنان أنور الجندي، كانت لك يا عبد الصمد رحلة ثنائي مسرحي- من جيلين -، عبر تجربة متنوعة في بداية  مسار فرقة (مسرح فنون لفاطمة بنمزيان) التي أعلنت آنذاك منحى كوميديا جديداً بناءاً وخطاباً، وبجيل تشخيصي جديد، فكانت سلسلة من المسرحيات الهادفة الإجتماعية المجسدة لنبض الشارع المغربي والعربي، بطرح قضايا هامة بقالب فكاهي (الدبلوم والدربوكة) حيث قارن المؤلف بسخرية بين العلم والشواهد، وبين الفن الشعبي التافه، و(سعدي براجلي) و(الله يطعمنا حلال) و(وسطار أكاذيبي).. و..و..و...
هكذا كنت يا عبد الصمد، رجل مهام تأسيس المنظومات الدرامية في المغرب، وفي كل منظومة كانت لك الكلمة المفتاح على مدار أكثر من نصف قرن.
وقبل كل هذا، وموازاة مع بعض من هذا، وحتى من ذاك، فإنك يا عبد الصمد، كنت قد كرمت أطفال سبعينات القرن العشرين، وأنا واحد منهم - في السنوات الأولى من تأسيس التلفزة المغربية - بأجمل فرجة تربوية حين كنت أحد أعمدة الثنائي (بوبي وجاكي)؛ وهو ثنائي مؤسس لما سيأتي لاحقا من تجارب رائدة في مسرح الطفل.
وأنت يا عبد الصمد، هو رجل السينما والتلفزيون بكل امتياز، داخل المغرب وخارجه، من خلال إخراج العديد من الإنتاجات الدرامية إلى جانب عديد الأعمال الإذاعية من مسلسلات وتمثيليات وبرامج كذلك، أيام كانت إذاعتنا الوطنية حصنا وملاذا للدراما، قبل حل فرقة التمثيل والتخلص حتى من البناية التي كانت تحتضنها، وأيضاً تحتضن الأجواق الوطنية للموسيقى الأندلسية والعصرية وطرب الملحون.
أيا عبد الصمد، إنك أيضا الفاعل الأصيل بلمسات الإبتكار في عدد هام من دورات أعرق مهرجان فني مغربي، وهو "المهرجان الوطني للفنون الشعبية" الذي تحتضنه مراكش.
وأنت يا عبد الصمد، هو ذاك الإنسان الباذخ في كل نبل  معاني الفنان المرهف الأنيق السموح الخلوق.
أيا عبد الصمد، ولو رحلت في زمن الحجر الصحي وما يفرض من تباعد، فإنك ستظل في ذاكرة الناس كواحد من الثلة المناضلة التي صمدت في وجه نوائب الدهر الغشوم، من أجل بناء دراما مغربية تتجانس فيها المضامين مع الأشكال، في تركيبة سحرية مثيرة، ناطقة بلسان حال الألم والأمل.
وكيف لا تكون يا عبد الصمد بكل هاته الكاريزما، وأنت المغربي الذي تمتد أصولك إلى أيام بهاء العرب والمسلمين في بلاد الأندلس التي كانت المثل الأنجح لتعايش كل الثقافات.
عبد الصمد، إنك حين أبدعت دراما كبار كتاب العالم، فإنك بقيت وفيا لروح الجينات التي طبعت بناء شخصيتك المغربية بكل روافدها الباسقة: "ذو الوزارتين"، لسان الدين بن الخطيب.
أيا عبد الصمد، كم كنت شغوفا بأن تظل في الظل بعيداً عن الأضواء، وكم كنت تتصبب عرقا من فرط الحياء حين يتم الضغط عليك، لتخرج عند نهاية العرض لتحيي جمهورك، وأنت الذي لا تريد من القوم لا جزاءاً و لا شكوراً.
كلا يا أستاذي الفاضل الجليل، إن كنت قد حلت - طيلة حياتك - بيننا وبين مديحك، فلن تحول الآن بيننا وبين رثائك، وإن هذا الرثاء لهو مديح، وإن كان لا يستوعب حتى الأحرف الأولى من أبجديتك التي ضمت كل أحرف كل لغات الناس.
لقد ملأت الدنيا صخبا ماتعا جميلا وأنت بين الناس، وها أنت ترحل لتملأ الدنيا أسى وحزنا على فراق لم يحسب له أحد منا حسابا.
لك سيدي عبد الصمد، جنة الفردوس، جزاءاً لروحك على إحسانك للناس في دنيا الناس.