الجمعة 19 إبريل 2024
سياسة

عبد الرحمان اليوسفي.. أيها الرجل النبيل لتنم قرير العين في حياتك الأبدية...

عبد الرحمان اليوسفي.. أيها الرجل النبيل لتنم قرير العين في حياتك الأبدية... الملك محمد السادس لدى عيادته للمرحوم اليوسفي حين كان يعالج بالمستشفى سابقا
من سوء القدر أن يسلم عبد الرحمان اليوسفي روحه إلى الله ويغادر ضفة الحياة عبر قارب الموت، وجدران البيت "الاتحادي" الذي بناه، بدمه وجهاده وجهاد أسلافه من المناضلين والثوريين الاتحاديين، بدأ بالتداعي. العمود الذي ظل يسند خيمة حزب بنجلون وبنبركة وبوعبيد يسقط في لحظة فارقة ومفصلية من تاريخ حزب "الشهداء". لكنه مات بتاريخ ناصع البياض وبابتسامة طافية على شفتيه، ابتسامة رجل دولة زاهد في المناصب والألقاب ومتاع الريع.
مات اليوسفي وترك وراءه حكاية تستحق أن تروى للأبناء والأحفاد، حكاية سيرة "مناضل" خلع كل الأوصاف واختار أن يندسّ بين الشعب، وأن يعيش ما تبقى من عمره في وطنه حياة هادئة بشقة متواضعة لا تحمل الكثير من الترف بقدر ما تكنز التاريخ والشرف.  
حين اعتزل عبد الرحمان اليوسفي السياسة، فإن اعتزاله كان عن قناعة وبمحض إرادته بلا ضجيج ولا "جعجعة". 
حتى في موته كان موتا هادئا ولم يكن موتا مجلجلا ودراميا.. مات وهو يترك خلفه صورة تاريخية ستبقى خالدة من "انحناءة" ملك وهو يطبع قبلة "ابن" على جبين "أب"، هي مرة واحدة انحنى فيها الملك انحناءة "حبّ" و"تكريم" وهو يزوره في المستشفى.. هذا هو التاريخ الذي يستحق أن يروى.
مات اليوسفي ولم يترك وراءه إلا صور "الفرح" و"الأمل"، من رأى منكم "تقطيبة" اليوسفي؟ من يخبئ صورة اليوسفي معقود الحاجبين؟
من يعرف اليوسفي بوجه "أسود" أو "أحمر" أو "رمادي"، شخصيا لا أعرف إلا وجهه "الأبيض" وابتسامته "الصافية" وصوته "الهادئ".  
التكريم الملكي لعبد الرحمان اليوسفي بإهداء شارع يحمل اسمه بطنجة قليل من الدّين الدي نسدده لرجل لم يبع روحه وقبل التضحية بشعبية حزبه وقيادة حكومة التناوب في فترة زمنية عصيبة، لم يمل الشروط على المرحوم الحسن الثاني، وحتى عندما كان "عرّابا" للانتقال السلس للعرش من عهد الحسن الثاني إلى "العهد الجديد" بقيادة محمد السادس، لم يطلب "مكافأة" أو "تعويضا" أو "تقاعدا" سمينا عن خدمة الوطن.. لم يكن انتهازيا كالآخرين ويطالب بالمزيد من "الريع" و"الامتيازات"!!
اليوسفي لم يحمل بعد تقاعده مدفعا رشاشا ليصوب نيرانه نحو حزبه.. حتى في أحلك الأيام التي مر منها حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، لم يكن يضمر الشرّ حتى لأشرس خصومه، ويصنع المكائد وينصب الفخاخ، بل كان بيته "مخزنا" للأسرار وقلبه "مستودعا" للحب وعقله "منزلا" للحكمة وقوده هي "المبادئ" و"الوفاء" و"الفضيلة"، لا تحركه "الأنانية" و"الجشع" و"الشّره".
مات عبد الرحمان اليوسفي لكنه ترك إرثا ثقيلا من النضال، وكسر جدار الصمت، ووافق على أن يفتح دولاب ذكرياته، ويتقاسم مع المغاربة أسراره التي ظلت حبيسة صدره، في كتاب كان فيه المناضل "الاتحادي" البارز "شفافا" وصادقا مع نفسه، ليروي لنا كيف اختار التواري عن الحياة السياسية من الباب الواسع، وفك جميع ارتباطاته ومسؤولياته بالحزب، بعد تعيين إدريس جطو وزيرا أول احتجاجا على عدم احترام المنهجية الديمقراطية. 
شتّان بين اليوسفي وبين زعماء آخرين، منهم من انتهت ولايته على إيقاع الفضائح، ومنهم من "خلعوا" بالكلّاب من رئاسة الحكومة و"انتهى الكلام".. كل الكلام. 
من هنا يبدو الفرق بين اليوسفي والآخرين: شخصية عبد الرحمان اليوسفي الذي كان ينسى، في فترة قيادته للحكومة، أنه الكاتب الأول لحزب الاتحاد الاشتراكي. كان يعرف أن مسؤولية الوزارة الأولى أنبل وأولى من مسؤولية إدارة حزب، ولو كان هذا الحزب آنذاك هو "الاتحاد الاشتراكي" بحمولته الشعبية والرمزية والتاريخية. لم يوزع الحقائب الوزارية على عائلته الحزبية خارج دائرة "الاستحقاق"، لم "يهرف" على مناصب "أولاد الشعب" ويهبها لأقاربه. كان زعيما "زاهدا" في كل شيء، قنوعا، مخلصا، أمينا... لذلك سيظل اسم اليوسفي ناصع البياض.
لا يذكر التاريخ أن بيت اليوسفي أصبح مثل مخفر الشرطة يرابط أمامه ليل نهار الحرس ورجال الأمن. اليوسفي كان يمشي في الأسواق وفي الشوارع منتصب القامة، مرفوع الهامة. لم تحمل في وجهه لافتات "ارحل" حتى في عز إدارته الحكومة، لم يكن يعترض طريقه المحتجون والغاضبون.
لذا، لن ينسى اليوسفي، فهناك فرق بين من يطلب الخلود في "التاريخ"، ومن يطلب الخلود في "الكراسي"!!! واليوسفي اختار أكثر أن يظل ذاكرة حيّة لا تموت.. لا تموت.. بل سيظل "بذرة" في قلوب المغاربة نسقيها بدموع الحب والوفاء، لتستطيل شجرة سامقة نستظل تحت أوراقها ونستند على جذعها..
عبد الرحمان اليوسفي.. أيها الرجل النبيل لتنم قرير العين في حياتك الأبدية...