الثلاثاء 23 إبريل 2024
فن وثقافة

"المغرب الذي كان"، لقاء والتر هاريس بالريسولي في الأسر بالزينات (22)

"المغرب الذي كان"، لقاء والتر هاريس بالريسولي في الأسر بالزينات (22) الريسولي، يتوسط، الأستاذ هشام بنعمر بالله، ووالتر هاريس(يسارا)

اختارت جريدة "أنفاس بريس" طيلة شهر رمضان أن تقدم لكم بعض المقتطفات من الترجمة العربية التي قام بها الأستاذ هشام بنعمر بالله لكتاب "المغرب الذي كان" للصحفي البريطاني "والتر هاريس" الذي عاش في طنجة ما بين سنتي 1887 و 1921 وعاصر أهم الأحداث التاريخية التي عاشها المغرب نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

الكاتب صحفي بريطاني "والتر هاريس" ولج البلاطُ الحسني بوساطة من الحراب البريطاني "السير ماك لين" الذي استقدمه السلطان الحسن الأول لتطوير الجيش المغربي.

كان يتستر تحت غطاء الصحافة مراسلاً صحفياً لجريدة "التايمز" في طنجة لمزاولة مهام استخباراتية دنيئة، وخدمة المصالح القنصلية البريطانية و الفرنسية حيث رافق الكثير من السفارات الاوروبية إلى البلاط المغربي. و خلال مقامه الممتد في المغرب ما بين 1887 و 1921 بالمغرب ظلَّ يتقرب من مختلف الدوائر و المؤسسات المؤثرة في مغرب نهاية القرن التاسع عشر و بداية القرن العشرين. وقد عاصر ثلاث سلاطين وتمكن من نسج علاقات مع مكونات المجتمع المغربي (وزراء و موظفو المخزن الشريف، و شيوخ القبائل و الزوايا الدينية بالإضافة الى اللصوص و قطاع الطرق، وعموم الناس ...)

الكتاب حسب المترجم "يرسم صورة قاتمة عن نهاية المخزن المغربي (التقليدي) أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وسقوط المغرب في قبضة القوى الاستعمارية الغربية. سقوط يسعى الكاتب من خلال مؤلفه المذكور (المغرب الذي كان) بقليل من الموضوعية إلى تبيان أسبابه و مظاهره بأسى شديد". و نشر الكتاب لأول مرة باللغة الانجليزية تحت عنوان مثير (Moroccothatwas) الذي ارتأى الأستاذ هشام بنعمر بالله ترجمته بالعربية ب (المغرب الذي كان) .

عن دار النشر William Blackwood And Son بلندن سنة 1921 بينما صدرت ترجمته الفرنسية عن دار بلونPlon سنة 1929 لبول اودينوPaul Odinot تحت عنوان طويل :

Le Maroc disparu (Anecdotes sur la vie intime de MoulyHafid, de Moulay Abd El Aziz et de Raissouli)

وقد اعتمد الأستاذ هشام بنعمر بالله في الترجمة بالأساس على النسخة الفرنسية التي ذكرناها مع الرجوع، في أكثر من مرة، إلى النسخة الأصلية باللغة الانجليزية كلما بدا له الأمر ضرورياً لتصحيح الترجمة العربية لتبدو أمينة قدر الإمكان. واختار لها عنواناً "المغرب الذي كان" لأسباب لا يسمح المقام للخوض فيها و مناقشتها.

 

أُرسِل (الرَّقاصَة) لإخطاره بخَبر القاء القَبض عليَّ. بعد لحظاتٍ قصيرةٍ، تمَّ اقتيادي لأمثُلَ أمامه.

جَلسَ[الرِّيسُولي] في وَهدة تحت ظِلِّ شجرة زيتون، أحاطَ به المحاربون وشيُوخ القبائل القريبة من "الزِّينات". احتشدوا بعد أن وصلهم نبأ القبض عليَّ.

استقبلني الرَّيسولي بكل ودٍّ، كان لايزال شابًا أنيقًا. تزيَّا بلباسِ المنطقة. اعتمِرُ عَمامةً زرقاءَ داكنة، وارتَدى جلابةً سَوداء قصيرة، لا تتعدى الرُّكبة، فوق لبَاسه الأبيض، ساقاه عَاريتان، ويَنتعِلُ حِذَاءً جلديًا(بَلغة) أصفر.

بعد مُحادثَةٍ قصيرة معه، شرع يحكي كل ما وَقع. ثم أمر باقتيادي إلى منزله ، أو ما بقي منه، لأن الجيوش أضرمت فيه النَّار بالكامل. إلى حدود هذه اللَّحظة ليس عندي ما اشتكي منه، فمُعاملة الرِّجال كانت جيدة. شيئاً فشيئاً بدأت تَحتشِدُ الجمُوع حول مكان الإحتجاز، الكل يرغبُ في إلقاء نظرة على "الرُّومِي". يبدو أن الجميع متهيءٌ للثَّأر للخسائر التي كبَّدهم إيَّاها المخزن. سمِعتُ الكثير من الشَّتمِ المُبطَّن بالوعيد، لكن تبدو سُطوة "الرِّيسولي" واضحة، وبإمكانه حمايتي من هؤلاء [الرعاع].

قَضَّيتُ أَسوءَ اللَّحظات عندما انتبهت أن هناك حَشداً يتجاوز عدد أفراده الألفين يُحاصِر المكان. مع دنو غُروب أشعة الشمس، شَعرتُ بالخطر الدَّاهم، بعد أن غادر الحُرَّاس المكان، فمن المُمكن أن يهاجمَني هؤلاء [الرعاع].

سمعتُ صرير الباب، فشعرت بالطُّمأنينة. دفعني الحُرَّاس بقوة إلى داخل غُرفةٍ مُظلمةٍ، ثم غُلِّقَ عليَّ الباب بإحكام. يبدو أن الحشد كان يستعدُّ لاقتحام المكان ، ممَّا حَثَّ "الرَّيسولي" ورجاله على التَّجمع أمامه لصدِّهم عن ذلك.

حُشِرتُ في غرفةٍ مُظلمةٍ، يَنفذُ إليها القليل مِن الضَّوء عَبر كُوَّةٍ مفتُوحةٍ عند السَّقف. استغرقَ بصري مدةً للاستئناس بحدَّةِ العَتمة. بدأتُ أتأَقلمُ مع الظُّلمة. كان أول ما لمحتُ، جسدٌ مُمدَدٌ على الأرضيَّة وسط الغُرفة. كان لجندي قُتِلَ في الأعمال العسكرية هذا الصَّباح.

كان المشهد مُقرفاً. جَسدٌ عارٍ تماماً، نُزعَت عنه الثِّياب، وبُتر عضوه الذَّكري. يداه ممددتان على شكل صليب. سُحِقَت الرأس بِعُنفٍ. كانت الدماء تملئُ الأرضيَّة. قام رجال [الرَّيسولي] بفَصْلِ الرأس (عن الجسد) حتى يصير شَاهدة نَصرٍ على الجيوش المخزنية. مسحُوا بأيديهم المُلطَّخةِ بالدماء على الحائط المطليِّ بالجير، مما ترك آثاراً حمراء في كل مكان.

لم أعاني طويلاً من الجُلوس قُرب الجثة، حيث دخلت مجمُوعة من الرِّجال الذين شرعوا في تغسيل الجثة، ثُمَّ قاموا بلفِّها في كَفنٍ، وحُملوها بعد ذلك إلى الخارج لتُدفَن. فيما بَعد عَادوا إلى الغرفة لتنظِيف الأرضيَّة دون الإهتمام بإزالة آثار الدِّماء التي تُلطِّخُ الحِيطان.

بقيتُ هناك سَاعات قليلة فقط، ساورني خلالها القلق عندما أخذت في تقدير الوضع، لأني لم انتبه إلى المخاطر التي تُحدِقُ بي من قبلُ. رغم ذلك كنت أعلم أنَّ فُرص النَّجاة كانت كبيرة.