الأربعاء 24 إبريل 2024
مجتمع

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون "التطويق" إلى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (1)

تاريخ الحجر الصحي: من الكُردون "التطويق" إلى تنظيم قوانين "الكرنتينة" (1) الأستاذ هشام بنعمر بالله، ومشهد لمرضى الطاعون

تقدم جريدة "أنفاس بريس" لقرائها الأوفياء هذه السلسة من المقالات التي توصلنا بها من الأستاذ هشام بنعمر بالله، متخصص في البحث التاريخي.

ويوضح الأستاذ بنعمر بالله بأن هذه المقالات "محاولة بسيطة للتأريخ لأنماط الاستجابة للأوبئة في المجال المتوسطي، ومنطقة المشرق الإسلامي خلال الفترة ما بين 1347 و1851م.. ورغبة شخصية في تقاسم المعرفة التاريخية في الزمن الكوروني"....

سلسلة من خمسة مقالات محاولة من هشام بنعمر بالله أيضا لفهم "سياسة احتواء الوباء مع تمديد فترة الحجر الصحي بالمغرب إلى غاية 20 ماي 2020."

في هذا السياق يقول الأستاذ بنعمر بالله المتخصص في البحث التاريخي بأن"هذه الورقة لا تستهدف سرد تاريخ تفشي وباء الطاعون وموجاته في حوض المتوسط، والمجهود الطبي الذي بدلته الهيئات الطبية المختلفة في أوروبا لدراسة المرض وتحديد العلاجات الأساسية للوقاية منه":

 

على مدار أكثر من ستة قرون شكل الطاعون أو (الموت الأسود) مصدر قلق للإنسانية، حيث ظل يبث الرعب في قُلوب الأفراد و الجماعات؛ فهو شديد العْدَوى لا يمكن الحدُّ من انتشاره.

كان الوباء بالنسبة لشعوب البحر الأبيض المتوسط خلال القرن الرابع عشر مصدر خوف من الفناء إلى حين القضاء عليه نهائياً أواخر القرن التاسع عشر الميلادي بعد اكتشاف التلقيح.

ومع ذلك يظل الرعب، من أن يظهر مرض جديد ـ ربما طاعون من نوع أخرـ يهدد وجود البشريَّة، بنفس القوة التي كان عليها "الطاعون" في الماضي.

طاعون 1347 م : الإستجابات الأولى في تاريخ أوروبا المتوسطيّة:

ـ تطبيق "مفهوم النِّظام"

عرفت أوروبا خلال الفترة ما بين 1347 و 1351 م انتشار وباء الطاعون الأسود الذي فتك بحوالي 24 مليون شخص، بذلك يعتبر بحق أسوء كارثة لمرض وبائي في أوروبا منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية، بل أن المدى الوبائي لهذا الطاعون وصل مناطق المشرق الإسلامي وشمال إفريقيا.

كانت البؤرة الوبائية في إقليم منغوليا ومنها انتشر الوباء بميناء "كافا" في شبه جزيرة القرم المطلة على البحر الأسود الذي كان يرتادُه تجار من "جنوة".

نقلت حوالي 12 سفينة قادمة من المنطقة الموبوءة الطَّاعون إلى ميناء مسينا في جزيرة صقلية، وجنوة وسائر مدن الشمال الايطالي مثل توسكانيا وليجوريا ولمبارديا والبندقية. ومنها تفشي الوباء بسرعة البرق في معظم أرجاء أوروبا حيث من المؤكد أن العدوى وصلت إلى باريس في حدود سنة 1348 م.

كانت سرعة انتقاله تسير ب 75 كلم يومياً عبر مسالك المبادلات التجاريَّة البحرية، النهرية، والبريَّة. كان الوباء يفتك يومياً بما ينيف عن 500 إنسان.

ساد الهلع في كل أنحاء أوروبا لأن الطاعون غطى مساحة واسعة. لم يعرف أحد طريقةً لتجنب الطاعون سوى الفرار الذي بدا أنَّه أفضل إستراتيجية دفاعية واضحة ،غير أنها في واقع الأمر كانت تساهم في استفحال الجائحة.

ولأن دول- المدن الشمال الايطالية كانت البؤرة الأصليَّة للطاعون الأسود في أوروبا، فقد أدرك مسؤولوها منذ البداية أن "الطاعون" وباء مُعدٍ، من تمَّ ظهرت عندهم الحاجة إلى استحداث (التدابير الأساسية للصِّحة العامة) للتصدي لانتشار الوباء فكانت الدعوة المستنيرة لاعتماد " مفهوم النظام" التي طبق عملياً في المدن السالفة الذكر، أي توسكانيا، لومبارديا، ليجوريا، والبندقية.

يعتبر "مفهوم النظام" أول إجراء وقائي للطوارئ عرفته الإنسانية، طيلة تاريخها الطويل في محاولة لاحتواء تفشي مرض معد، قام المفهوم على مجموعة من الاعتبارات الأخلاقية وليس الطبيَّة.

كانت بداية التدخل في مدينة توسكانيا وفلورنسا التي عمل مجلسهما الصِّحي على تطبيق حزمة من الاجراءات الصَّارمة التي تسمح بالتدخل في حياة الأفراد العاديين (المواطنين) خلال أزمة العدوى الوبائية. والتي ستُعرف لاحقاً ب "مفهوم النِّظام" حيث أصبح بإمكان السلطات المحلية في المدينتين الحق في إرباك الحياة اليومية للمواطنين الخاضعين لها حسب رغباتها لمقاومة الوباء (الطَّاعون) ويقوم هذا الإجراء على خمس إجراءات:


التَّحكم الدقيق في حركة تنقل النَّاس داخل المناطق الموبوءة، وبين المناطق الموبوءة و المناطق الخالية من الوباء باستعمال الحجر الصحي البري و البحري "الحجر الصحي".

2 ـ عزل المصابين و المشتبه في إصابتهم بالوباء في مستشفيات خاصة بالأمراض المعديَّة المعروفة بـ "بيوت الطَّاعون"، وحجز عائلات المصابين في منازلهم أو في غرف مؤقتة بعيدة عن الأماكن المأهولة بالسُّكان.

3 ـ الدفن الإجباري لجثث الموتى في حفر خاصة باستعمال الجير الحي، وطمر المتعلقات الشخصيَّة للمرضى.

4 ـ فرض الضرائب لتقديم الخدمات الطبيَّة المجانيَّة و إطعام المرضى والعائلات المعزولة.

5 ـ تقديم المساعدات المادية والغذائية للعائلات والأفراد المتضررين من إغلاق الأسواق والذين لا يملكون مخزوناً غذائياً.

وتعزيزاً لهذه الإجراءات لجأت بعض هذه المدن الايطالية إلى تجميع وتكويم النفايات المنزلية خارج المدن، وكنس الأزقة والشوارع لتبدو نظيفة لتجنب نقل العدوى، بالإضافة إلى دفن الفضلات الكريهة بسرعة، بل أن منها من ابتكر "تصاريح سفر" رسمية ابتداء من سنة 1400 م.


الحلقة الثانية: من "مفهوم النِّظام" الى تقنين إجراءات الحجر الصّحي (الكرنتينة )