الجمعة 29 مارس 2024
سياسة

عبد المنعم محسيني: المجال التعاقدي بين القوة الملزمة للعقد والظروف الطارئة في ظل كورونا

عبد المنعم محسيني: المجال التعاقدي بين القوة الملزمة للعقد والظروف الطارئة في ظل كورونا عبد المنعم محسيني

كان لأزمة كورونا تأثيرات واضحة على مستوى عدة مجالات، وخاصة بعد إعلان حالة الطوارئ الصحية. ولعل من بين المجالات التي تأثرت بشكل مباشر، المجال التعاقدي؛ حيث بدأت تظهر نزاعات حول الوفاء بالديون والالتزامات، خاصة أمام إشهار الكثير من المتعاقدين ورقة القوة القاهرة.

في هذا الإطار اتصلت "أنفاس بريس" بالأستاذ عبد المنعم محسيني، طالب باحث في سلك الدكتوراه، معهد الدراسات القضائية بفرنسا، وأجرت معه الحوار التالي:

 

+ نص المشرع في قانون الالتزامات والعقود على منح إمكانية تعديل الاتفاقات بناء على الفصل 230 منه فيما يعبر عنه بالعقد شريعة المتعاقدين، إلى أي حد يمكن اللجوء إلى هذا الفصل؟

- الفصل 230 هو مقتضى قانوني أساسي في قانون الالتزامات والعقود يؤكد على مبدأ القوة الملزمة للعقد أو ما يعرف لدى الفقه المدني بمبدأ حرمة العقد، فعندما يتم التوافق والتراضي بين الإرادتين، وهو ما يسميه الفقه الفرنسي ب principe de consensualisme  والذي يتميز ويختلف عن مبدأ سلطان الإرادة، على أساس أن الذي ينشئ الالتزام ليست الإرادة الفردية، بل التراضي بمعنى التوافق والتلاحم بين الإرادتين؛ والأساس الفلسفي والقانوني لهذا المبدأ الذي بلوره فلاسفة القانون المستمد أساسا من القاعدة الفلسفية القائلة: "إذا كانت البهائم  تقيد بقرونها، فإن الإنسان يقيد بلسانه"؛ من هنا جاء مبدأ القوة الملزمة للعقد.

غير أن ما يجب التنبيه إليه هو أن الفصل 230 ينص على عدم جواز تعديل الالتزامات أو إلغائها إلا بتراضي أطراف العلاقة العقدية أو في الحالات التي ينص فيها القانون ذلك، الأمر الذي يستشف معه أن القاضي لا يملك صلاحية الإلغاء أو الفسخ خلافا لما تتجه إليه إرادة المتعاقدين أو خلافا للتدخل التشريعي في العقد.

 

+ ما هي آثار هذا المبدأ؟

- يترتب عن هذا المبدأ ضرورة ووجوب تنفيذ الأطراف المتعاقدة التزاماتها التعاقدية، واحترام ما تم الاتفاق عليه من شروط وواجبات تعاقدية؛ وهذا بطبيعة الحال يجب أن يكون وفق مبدأ آخر منصوص عليه في الفصل 231 من قانون الالتزامات والعقود، يقضي بضرورة التقيد بحسن النية في تنفيذ العقد، وهو المبدأ المعبر عنه لدى فقهاء القانون المدني، وخاصة من طرف الفقيه الفرنسي "جورج ريبير" بتخليق التعامل مع القواعد القانونية ومع الالتزامات التعاقدية .

ومن جهة أخرى فإن مبدأ القوة الملزمة للعقد تقضي في الأصل بعدم التعديل أو الإلغاء، إلا استثناء في حالة التراضي أو حالات يقررها القانون.

ولتسليط الضوء أكثر، فإن فقهاء القانون المدني، وعلى قائمتهم الفقيه العربي الكبير المرحوم أحمد عبد الرزاق السنهوري والفقيه المغربي عبد القادر العرعاري والفقيه الفرنسي Jacques Ghestin، ميزوا في حياة العقد بين ثلاث مراحل: مرحلة تكوين العقد  Formation du contrat بحيث تتبلور خلال الوقائع المنشئة للالتزامات العقدية؛ ومرحلة تنفيذ العقد؛ ومرحلة انقضاء العقد.

وبالتالي ووفق هذه المراحل الثلاث لا بد من التمييز بين أنواع عدة من العقود، خاصة عقود فورية وعقود مستمرة.

أما العقود الفورية فهي التي تكون فيها الواقعة المنشئة للالتزام هي نفسها الواقعة التي على أساسها يتم تنفيذ الالتزام وحلول أجل استحقاقه.

أما بخصوص العقود المستمرة فهي العقود التي يتم إبرامها في وقت معين، ولكن تنفيذها وتنفيذ الالتزامات المترتبة عنها قد تستغرق مددا طويلة.. كأمثلة على ذلك نذكر عقود القرض وعقود الأكرية المختلفة. ولا بد من الإشارة هنا بأن قانون الالتزامات والعقود يعتبر بمثابة الشريعة العامة للعقود Droit commun du contrat ؛ وطبعا يتضمن الكتاب الثالث من قانون الالتزامات والعقود مجموعة من العقود عقد البيع وعقد الكراء، إلخ... ولكنها عقود تنظم مع ذلك بقوانين خاصة.. فرغم أن (ق.ا.ع.ق) قد نظم الأكرية، إلا أن هنالك قوانين ذات طبيعة خاصة تنظم هذا المجال كالقانون المنظم كراء المحلات المعدة للاستغلال التجاري أو الحرفي؛ وكذلك القانون الخاص بالكراء السكني؛ فهذه النصوص والقوانين الخاصة أدت بالفقه المقارن إلى بلورة وإحداث إلى جانب النظرية العامة للعقد "Théorie générale du contrat"  التي بني عليها قانون الالتزامات والعقود وكذلك القانون المدني الفرنسي؛ (بلورة) نظرية أخرى تسمى النظرية العامة للعقود الخاصة Theorie générale des contrats spéciaux بنيت على مجموعة من القواعد الخاصة بأطياف معينة من العقود les espèces des contrats التي تتفرع من نوع معين من أنواع العقود المنظمة بقوانين خاصة، قانون حماية المستهلك ومدونة التجارة، وبالتالي يمكن الحديث عن إنشاء النظرية العامة للعقود الخاصة، وقد تم إعداد مجموعة من الأطروحات الفقهية في هذا الشأن. أعتقد إذن أن هنالك مجموعة من المقتضيات القانونية التي تم تنظيمها بشكل خاص، والتي تكون أحيانا مختلفة عن القواعد العامة المنصوص عليها في الشريعة العامة لقانون الالتزامات والعقود؛ وتذكر في هذا المجال أيضا كمثال ما يتعلق بفسخ العقود؛ فعندما لا ينفذ شخص التزاماته القانونية في العقد؛ فإنه يتم إنذاره ومنحه أجلا للوفاء، وإلا اعتبر في حالة مطل؛ ويكون آنذاك من  حق الدائن إما إجباره على الأداء أو المطالبة بفسخ العقد مع التعويض: وهذه قاعدة عامة؛ ولكن نجد بعض للقواعد الخاصة تقضي بأنه رغم عدم تنفيذ الالتزام العقدي، فإن ذلك لا يؤدي إلى فسخ العقد؛ كما أنه في بعض الحالات لا يحق للدائن ليس إجبار المدين على تنفيذ التزامه؛ ومثل ذلك، وبعيدا عن الظروف الطارئة، القواعد الخاصة المنصوص عليها في الكتاب الخامس من مدونة التجارة المتعلقة بصعوبات المقاولة الذي يتضمن مقتضيات تنص على وقف أداء الديون الناشئة قبل صدور الحكم وبطلان كل الشروط الفاسخة للعقد... وأيضا مقتضيات المادة 149 من قانون حماية المستهلك التي تنص على قاعدة الإمهال القضائي الرامي إلى إيقاف تنفيذ عقد القرض في جانب الأقساط بسبب الفصل عن العمل أو لأسباب اجتماعية غير متوقعة.

وكل هذا أوردته لتوضيح مسألتين أساسيتين:

المسألة الأولى: أن القوة الملزمة للعقد تتراجع أمام المشرع الذي يحد من هذه القوة ويوقفها بسبب اعتبارات عامة أو خاصة؛

المسألة الثانية: أن المشرع عندما قرر أو يقرر الحد من آثار قوة العقد الملزمة فإنه يتدخل إما بناء قواعد النظرية العامة للعقد التي تظل قواعد عامة تسري على كافة العقود (القوة القاهرة والحادث الفجائي)، وإما بناء على قواعد خاصة مستمدة من النظرية العامة للعقود الخاصة؛ غير أن معيار التفرقة بين الآليتين هو أن القواعد الخاصة تحد من القوة الملزمة للعقد غالبا لاعتبارات شخصية تتعلق بالمدين في طيف معين من أطياف العقود"espèce du contrat" ، في حين أن الشريعة العامة تقوم بذلك لاعتبارات عامة تتعلق بكافة العقود أو على الأقل بنوع معين من أنواع العقود "genre du contrat"

بناء على ما سبق، يتضح أن المشرع تدخل سواء من خلال قواعد النظرية العامة للعقد (الظروف الطارئة) أو من خلال قواعد النظرية العامة للعقود الخاصة (الوقف الجماعي لتنفيذ الالتزامات والإمهال القضائي).

 

+ هل الإعلان عن الطوارئ الصحية يعتبر بمثابة القوة القاهرة المبررة لإيقاف تنفيذ الالتزامات؟ وإلى متى؟

- في الحقيقة اسمحوا لي أن أثير انتباهكم إلى أن أهمية سؤالكم وتعزز بسؤال آخر يتمحور حول مدى اعتبار ظاهرة كوفيد 19 مبررا لوقف تنفيذ الالتزامات؟ على اعتبار أن المرض لا يصيب كافة المتعاقدين. وتبعا لهذا السؤال، هل معنى ذلك أن الفيروس مادام لا يصيب الجميع فهل معنى ذلك أننا يجب أن تعامل بقواعد خاصة مسنونة أو في حاجة إلى سنها؟

كما أن الجواب عن هذه الأسئلة يقتضي بداية استحضار تعريف القوة القاهرة والحادث الفجائي والتمييز بينهما، تشريعا وفقها وقضاء، بحيث إن القوة القاهرة هي كل ظاهرة عامة (الكوارث الطبيعية والحروب....) لا يمكن توقعها ولا يمكن دفعها في حين أن الحادث الفجائي هو كل ظاهرة يمكن توقعها ولكن لا يمكن دفعها (الموت والتأمين على الحياة في عقود القرض العقاري....)؛ مما ينبغي إسقاطه في تكييف حالة الطوارئ الصحية فهل هي غير متوقعة ولا يمكن دفعها أم أنها متوقعة ولكن يستحيل دفعها؟

وهنا لابد من الإشارة، إلى أن الاجتهاد القضائي الفرنسي وخاصة في قرار حديث صدر عن محكمة الاستئناف كولمار "cour d'appel  colmar"  اعتبر أن حالة الطوارئ الصحية هي قوة قاهرة.

إن القاضي له سلطة تقديرية في تكييف الظواهر، لكن تنبغي الإشارة أن المشروع بموجب مرسوم بقانون جعل من ظاهرة الطوارئ الصحية موقفة للالتزامات القانونية في جانب الآجال وبالأحرى الالتزامات التعاقدية.

وبالتالي، في قانون الالتزامات والعقود يغني عن أي نص آخر للقول والحكم بنظرية الظروف الطارئة لتنفيذ حالات عدم تنفيذ الالتزامات، اعتبارا لكون المشرع منزه من العبث والإطناب.