الخميس 28 مارس 2024
كورونا

في زمن الكورونا.. الباحث رشيق يستعيد جائحة الطاعون الذي ضرب المغرب

في زمن الكورونا.. الباحث رشيق يستعيد جائحة الطاعون الذي ضرب المغرب حسن رشيق

في هذا الوقت من الأزمة الصحية 23/3/2020، يتذكر الأستاذ والباحث الأنثربولوجي حسن رشيق ما قاله له والده عن مصائب عصره (1926، 1940-45)؛ وقد سبق لرشيق أن كتب هذا في كتابه الموسوم بـ "عودة إلى زمن والدي، مقاربة أنثربولوجية"، حيث سرد مجريات انتشار وباء الطاعون المعروف باسم "الولسيس" ما بين سنتي 1940 و1945...".

"أنفاس بريس" تقتطف هذه المقاطع، من كتاب حسن رشيق، والتي تحكي تفاصيل حكاية هذه النكبة وما ترتب عنها:

 

"كان عمر الوالد ستّ سنوات عندما ضرب داء الجذري القرية سنة 1926. ولم يكن أهل القرية يقبلون الغرباء المصابين بهذا المرض. فكان هؤلاء يلجؤون إلى المقبرة، و كان بعضهم يظلّ هناك إلى آخر نفس في حياته. وبالمقابل، لم يحدث أن طُرد أحد من أهالي القرية المصابين. يتذكّر الوالد التّلقيح المضاد للجدري الذي كان يقوم به أحد موظّفي الصّحة الفرنسيين. ولا يزال أثر هذا التلقيح، الذي كان أوّل اتّصال له مع فرنسي ومع الطّب الحديث، واضحا على ركبته. وكانت سنة 1926 أيضا سنة جفاف ومجاعة. فالعديد من العائلات التي لم تعد تملك ما به تسدّ رمقها، هجرت القرية ليلا خوفا، أو على الأصّح تجنّبا لما قد يلحقها من عار إن رآها أحد. كان النّاس يمشون على الأقدام في اتّجاه المناطق الأقل تضررا. وكان هناك آخرون، ضعاف جائعون، يصلون إلى القرية. يصف والدي هذه المشاهد اليومية حيث كان الغرباء، وهم يقاومون الموت، يتوسّلون السّاكنة، وهم ينوحون: "أعتقوا الروح". وبسبب القحط، كان العديد من البؤساء يتقاسمون جبأنية عصيدة من الشعير. و الحال هذه، كانت قرية والدي ميسورة نسبيا، وكان النّاس، رغم العوز الشديد يجدون ما به يسدّون رمقهم.

 

كانت منطقة سوس تشكّل تاريخيا بؤرة إيكولوجية لوباء الطاعون. ففي سنة 1940، تمّ التعرف على العديد من المساكن المصابة (ريفي، 1992، ص 94 – 97). فقد انتشر وباء الطاعون المعروف باسم "الولسيس" في القرية ما بين سنتي 1940 و1945. ومن المعلوم أنّ الطاعون يظهر أوّلا عند الفئران التي يتضاعف عددها إثر محصول جيّد. ومن تمّ ينتقل إلى الإنسان عبر لسعات براغيث الفئران. ويتميّز هذا الوباء بظهور دملة أو مجموعة دمل (عقدة كبيرة الحجم) متقيّحة، قد تكون تحت الإبط، وفي أعلى الفخذ، أو في ثنيته. لقد كان أمرا لا يحتمل، وأنا أسمع وصف أطراف الجسد المتضررة والمتعفّنة. وكان الطاعون يكشف عن نفسه أيضا من خلال الحمى الشديدة. وكان الشخص المصاب يهذي ويصبح تقريبا في دائرة المجانين. ومع هذا الوباء، سكن الرّعب القرية. ولم يعد لأحد الجرأة ليستسقي ليلا. إذ كان يتراءى له في كلّ مكان أشباحا وعفاريت تخترق برؤوسها السماء.

 

لم تكن المراقبة الصحية تتجاوز عزل القرية المعنية. هكذا تمّ وضع ممثل للسلطة المحلية في القرية. وكان عليه أن يصرّح بالمرضى الذين نُقلوا إلى مستوصف متواجد بسوق الثلاثاء، على بعد عشرة كيلومترات. وكان هذا المستوصف يُسيّر من طرف طبيب فرنسي. وقد تمّ ترحيل ابن الشيخ وعائلته إلى هذا المستوصف. وكان رجل السلطة يعقّم المنازل، ويغلق أبوابها بحواجز (زرب). وكان أهالي القرية يظلّون أحيانا أكثر من شهر دون أن يتمكّنوا من الذهاب إلى السوق. ولكي يسدّوا حاجاتهم من اللحوم، كانوا يلجؤون إلى "توزيعت"، وهي مؤسّسة تقليدية تسمح بتزويد ساكنة الجماعة باللحوم الطرية. فهؤلاء يشترون البهيمة جماعة، يذبحونها تمّ يقطّعونها أجزاء متساوية توزّع حسب نسبة مساهمة كلّ فرد. وقد كانوا يلجؤون لنفس الطريقة لمساعدة كلّ شخص من أهالي القرية تكون بهيمته محكوم عليها بالموت بسبب حادث ما.

 

كان الوالد يعتقد أنّ العدوى قد أصابته. فزيادة على الحمى الشديدة، كان يحسّ بوجود دملة في عضلة ذراعه. غير أنّ مرضه، ودونما استبعاد حدوث استشفاء طبيعي، كان عابرا. وقد أقعد المرض معلّمه أيضا لمدة ثلاثة أيام. وكان ذلك هو الحدّ، لآنّ المريض الذي يتجاوز ثلاثة أيام، يُقال عنه أن لا أمل في شفائه. لم يكن النّاس يحصون أمواتهم، إذ حدث أن تشتّتت عائلات بأكملها. والوالد نفسه، فقدَ العديد من أقاربه، منهم أخته سنة 1943، ووالدته سنة 1945.

 

وخلال نفس المرحلة، كانت المنطقة بأسرها تعرف، على غرار البلد بأكمله، عوزا شديدا. تلك سنوات تقنين الاستهلاك. كان كلّ شيء يخضع للتقنين، بدءا من الثوب والسكّر المدقوق (سكر أسود لا يرغب فيه أحد) إلى مسحوق الحليب...كان الأغنياء والأعيان يستحوذون على الثّوب. وقد كان للوالد فرصة الاستفادة ثلاث مرّات من ثوب بطول أربعة أمتار. وكان هناك شخص تابع للقايد هو من يتولّى لائحة تضمّ أسماء العائلات وحجمها. وكان كلّ عضو في العائلة يتلقّى، حسب العرض، 900، أو 800، أو 500، بل وحتّى 250 غرام من الطّحين. وقد تمّ تكليف والدي مرّات عدّة بهذا التّوزيع. وكانت مثل هذه الأمور تخلق أوضاعا يصبح فيها كلّ الناس، وحتّى يتمكّنوا من العيش، شركاء في خديعة جماعية. هكذا، كان أمرا جاريا أن يدفع شخص ميسور السّعر الإجمالي لحصّة يأخذ نصفها، ويهب النّصف الباقي لأحد الفقراء".

 

حسن رشيق، عودة إلى زمن والدي، مقاربة أنثروبولوجية"، ترجمة عز الدين العلام، مقتطف، ص 50-52