في البداية أود أن أوضح للقارئ أن الدافع الذي جعلني أقدم هذه القراءة لكتاب الأستاذ الأكاديمي سعيد البوزيدي بجامعة إبن طفيل بالقنيطرة، المعنون "الأيكيدو، الممارسة الرياضية والتنمية الذاتية"، يتجلى في أهمية حمولته الفكرية في سياق التيه الذي يميز أوضاع الدول الغربية زمن ما بعد الحداثة. لقد عكس هذا الكتاب نموذج بناء مجتمع متميز كونيا، المجتمع الياباني، بالاستعانة القوية بمدارس الأيكيدو، بعد إخراجها من المعابد، وتحويلها إلى مؤسسات تربوية بكل المقاييس.
إن توقيت إصدار هذا الكتاب مهم للغاية، لكونه يصادف مرحلة بحث القوى العالمية على نموذج تنموي حضاري جديد بعدما تم إعلان احتضار الحداثة، التي تغذت لمدة تفوق أربع قرون على جثة تقليدانية القرون الوسطى. فعلا، ففي ظرف خمسين سنة الأخيرة تضاعف سكان العالم ليمر من مليارين إلى سبعة ملايير نسمة، بحيث حققت الحضارة الغربية خلالها ثورة صناعية وتكنولوجية وعلمية وتجارية ومالية مبهرة، لتصل إلى مرحلة الإشباع، الإشباع الذي دفع مصادر القرار غربيا إلى تجاوز المبادئ الأساسية التي بنيت عليها الإيديولوجية النيوليبرالية. لقد تدخلت مجموعة من الدول في اقتصادياتها واقتصاديات دول أخرى، متجاوزة بذلك مبدأ حرية السوق، وشعار "دعه يعمل دعه يسير". كما تميز هذا الإشباع بتفكك الدولة القومية، واختراق سيادتها، وبروز الدولة القبلية والعشائرية، جراء التشكل السريع للطوائف، والمجموعات غير الرسمية في كل المجتمعات، وطغيان الفردانية وميول الأفراد والجماعات إلى الصوت والصورة والنفور من القراءة والكتاب.
لقد جاء هذا المنتوج العلمي معبرا عن نموذج تنموي متميز عن كل ما آلت إليه تداعيات تقابل وتفاعل المنطقين السياسيين اللذين تطورا على أساس التباين بين منطقي الإمبراطوريتين البزنطية والرومانية. إنه نموذج سلكت من خلاله دولة اليابان أسلوبا سلميا لمواجهة الاستعمار الأمريكي. لقد جرب هذا الشعب العنف من خلال تنظيم العمليات الانتحارية والفدائية، ليكتوي بنكبة الهجومات النووية، لينغمس بوعي شديد في تفكير عميق، توج بإقرار السلم كنهج، والتربية عبر رياضة الأيكيدو كوسيلة، لتنظم دولة اليابان، عن جدارة واستحقاق، إلى مصاف الدول الأسيوية، وعلى رأسها الصين، التي جعلت من فنون القتال فضاءات تربوية بامتياز، ومقوم أساسي لتقوية اللحمة الوطنية. لقد تحولت رياضة الأيكيدو في هذا البلد إلى مدرسة وطنية للتربية والتكوين المجتمعي، وفضاء لتعلم ثقافة الانفتاح عن الآخر (المستعمر أولا، والدول الغربية بعد الاستقلال ثانيا، وعلى رأسها فرنسا، وجعل المغرب بوابة للمرور إلى إفريقيا ثالثا)، مكنها من الحصول على استقلالها بدون عنف في ظرف ست سنوات فقط.
وأمام هذا النجاح الواضح لهذه التجربة الحضارية، يبقى من الأهم الإشارة بإيجاز للعوائق، التي تكاد تتحول إلى عاهة مجتمعية مزمنة، التي نتجت عن الأسلوب الذي انتهجته الدول العربية والمغاربية في حصولها على الاستقلال. لقد كان هذا الأسلوب مؤسسا على منطق العنف، والمواجهة المسلحة، والرفض القطعي للآخر، المصحوب بتهييج الشعور العقائدي الرافض للإهانة والتحكم الممارس من طرف الدول ذات الديانات المختلفة. هذا المنطق لم يكن مساعدا لبناء الدول الوطنية بعد الاستقلال، لكونه كان يحمل بين طياته نزعات ترسيخ ثقافة المعارضة القوية. لقد أضاعت هذه الشعوب عدة عقود وهي تعارض وتقاتل، في سياقات خلافية ونزاعية داخليا وخارجيا، وفارغة من أي انشغال بتربية وتكوين الأجيال للمستقبل. إن هذا الهدر الزمني غلب أسلوب القول على الفعل في الثقافات المجتمعية، وحول نزعة المعارضة إلى ثقافة سائدة، ليشتد الصراع الداخلي العنيف في كل الدول تقريبا، صراع من أجل الوصول السلطة، تخللته عمليات تصفيات متعددة، استنزفت الكيانات المجتمعية من قواها الحية.
فإذا كان المفكر الهرم عبد الله العروي يعد من رموز المفكرين الذين قرروا الغوص في فهم وتحليل وانتقاد الحضارة الغربية بتاريخها الزاخر بالأحداث (انسلخ عن التقليد متجاوزا تحذيرات بعض رواد المقاومة باللاعودة، وعلى رأسهم علال الفاسي راعي الحركة الإسلامية مغربيا)، وتمكن من العودة إلى قضايا بلاده، ومحيطها الإقليمي، برصيد فكري ثمين، وبنظرة دقيقة وثاقبة في معالجة الإشكالات المرتبطة ببناء المشروع المجتمعي الحداثي (العروي نموذج ناجح لشاب مثقف انسلخ عن التقليد، وغاص بكل ما لديه من قوة في دراسة الفكر الغربي، والعيش في كنفه، والعودة بفكر ثري متنور لا يتناقض في شيء مع هويته الأصلية)، فإن النموذج الياباني له خاصية أخرى. فبالرغم من سيطرة المستعمر، تحولت مدارس الأيكيدو إلى فضاءات لترسيخ نموذج جديد في المعاملة والسلوك والأخلاق والانضباط. وسعيا في إثارة اهتمام الشعب برمته، تم التفكير في تقنياتها بشكل عميق لتكون رياضة لكل الأعمار (من المهد إلى اللحد): الأطفال، والشباب، والمراهقون، والشيوخ، وذوي الاحتياجات الخاصة. كما أن ما تفرضه من تركيز قوي في الممارسة، جعلها رياضة لتجسيد مقاربة النوع، بحيث لا يبالي الممارس قط باختلاف جنس مشاركه في اللعبة. ومن أجل ضمان النجاعة في التربية والتكوين، تم التفكير كذلك في عدة ضوابط لترسيخ قيم احترام القدوة في شخص الأستاذ المؤطر (الشيخ) لدى الممارس (المريد)، والافتخار به، والامتثال لروابط الانتماء والولاء والتبعية، تحت شرط حرص المعلم المؤسساتي على تجسيد العدالة والشرف والكرم والإيثار والحكمة.
خلاصة
إن النجاح الذي حققته هذه الرياضة، جعل اليابانيين يفتخرون بجهود بنائهم لنموذج مجتمعهم. إنه النموذج الذي حقق في نفس الوقت المحافظة على الهوية اليابانية داخل الأسرة، وترسيخ ثقافة الانفتاح على الآخر، خصوصا الآخر الغربي، في الاقتصاد والتكنولوجيا والبحث العلمي والتجارة والخدمات والتدبير المالي. إجمالا، لقد نجح اليابانيون في بناء نموذج مجتمع متميز وقابل للتصدير.
أما نحن المغاربة، فلدينا ذخيرة فكرية ثمينة، لا زالت تقبع في رفوف المكتبات ومعارض الكتب، وتنتظر روادا من صفوف المثقفين الوطنيين لتقريبها من الشعب المغربي. فما أحوج بلادنا لغوص الشباب في قراءة وتحليل مشاريع كتابنا الكبار وعلى رأسهم محمد عابد الجابري (إعادة قراءة التراث عقلانيا وغربلته)، وعبد الله العروي أطال الله في عمره (تجاوز التقليد مجتمعيا، والانفتاح على فكر الحضارات الأخرى والعودة بنظرة حداثية لموروث الهوية).