الأحد 24 نوفمبر 2024
منبر أنفاس

حمزة شكري : حفريات في حوار الحضارات

حمزة شكري : حفريات في حوار الحضارات حمزة شكري

لا شك أن مفهوم "حوار الحضارات" بعيد عن ما يعتريه من صعوبة تأويل، ولغط تفسير، يتجاوز أغلب التفاسير السطحية المنمقة، والتعاريف المنطقة ليصل للكنه القائل بتفادي الصدام بين الحضارات بصفة عامة وثقافاتها على سبيل التحديد والتدقيق من جهة وتداوليات المشترك الإنساني بينها من جهة أخرى .

ومن هذا المنطلق دفعتنا تلك الرغبة الملحة والملحاحة إلى فتح كوة صغيرة في جدار التاريخ لافتحاص جوهر المصطلح، ونمذجته بشواهد تاريخية وأمثلة مجتمعية لنقف عند حدوده الممكنة وتجلياته المتمثلة .

لعل أول ما يصادف الباحث والدارس والمتأمل - على حد سواء - في تاريخ الحضارة الإسلامية، هي تلك اللحظة الممتدة من بداية تشكل الوعي الإسلامي بعيد الرسالة المحمدية الشريفة إلى اليوم، والتي شكلت زخما معرفيا غنيا، ووسمت بأحداث تاريخية باذخة، وطبعت بمواقف جمعية بارزة، ولا غرو أن تناقش اليوم مئات الأطاريح وآلاف الرسائل والبحوث الأكاديمية التي تقارب شمس هذا الممتد الحضاري الإسلامي، والذي شكلت - دار الحكمة أو بيت الحكمة- منارة حضارية فيه باعتبارها واحدة من الوقفات التاريخية المبهرة انسجاما وحوار الحضارات، فقد جسدته تجسيدا ممارسا والشاهد ما أنتجته من ترجمة عن الحضارات العتيقة (الحضارة اليونانية والفارسية والهندية)

ولا يكاد ينكر أحد على أبي جعفر المنصور (149ه 193 ه) يده البيضاء في تأسيس بيت الحكمة وتهذيب الأذواق الثقافية ونقل معارف مشارق الأرض ومغاربها ليشيد بذلك وقفة حضارية تحاكي الأنموذج الواقعي والحقيقي لحوار الحضارات في أبهى حلله وأوضح صوره لتظل علامة متنورة داخل بنية العقل العربي الجمعي ووعيه. ففيه -بيت الحكمة- ترجمت على يد "حنين بن اسحق" -والذي كان مسيحيا بالمناسبة- كتب الطبيب الأول اليوناني "جالينوس" واضع علم التشريح البشري والذي عرف عند العرب بفضل كتبه في الطب، بل صار متوسلا به في أشعارهم يقول المتنبي :

يموت راعي الضأن في جهله***ميتة جالينوس في طبه

وترجمت كتب الطبيب "أبو قراط" صاحب كتاب الأجنة وكتاب طبيعة الإنسان، وكتب "بطليموس" ومحاورات "أفلاطون" الفلسفية و"أرسطو" أيضا، كما ترجمت أيضا معالم الثقافة الفارسية عبر"عبد الله بن المقفع" - نشأ و تربى ماجوسيا - و "حبلة بن سالم" للعربية ونذكر منها على سبيل الذكر لا الحصر "كليلة ودمنة " و كتاب " التاج في سيرة أنو شروان" .

ونقلت أيضا من الهندية أو سنسكريتية قديما مجموعة من أمهات الكتب للعربية على يد "عبد الله بن علي" و "صالح بن بهلة الهندي" من قبيل "كتاب السيرك الهندي" وكتاب "سندباد الكبير" وظل بيت الحكمة منذ نشأته على يد الرشيد وازدهاره في عهد المأمون يؤلف بين المختلف ويبسط المشترك ويذيب جدار البون الشاسع بين الثقافات وما يعهد فيها من تنوع إلى موعد سقوطه على آثار مخالب المغول الوحشية في القرن السابع الهجري.

تتشابه المدارك المشتركة الحالية بين عموم البشر، وهنا بالضبط، لا نكاد نختلف على أن الفن -بقدر اتساع تشعباته- واحد منها، إذ يظل حده المتواتر -ثقافيا- باعتباره تعبيرا واعيا عن الذات الإنسانية في عموميتها، فبالفن تستنطق الثقافات، وتتداخل، و تتشابك في زواج شرعي فيما بينها على مذهب كوني موحد تنجب منه أعمالا كبرى تستحق أن تسمى -اصطلاحا- مشتركا إنسانيا كونيا .

ولعلنا بهذه الوقفة -القصيرة نسبيا- سنحاول إدراك المدرك وفتح المستغلق حول ما يكون المشترك الإنساني في المذهب الفني، وقد لا يسعفنا الحديث عن كل الإشارات الفنية التي أحالت على قيم حوار الحضارات لكن يمكن أن نستلطف الحديث -بنوع من الاختصار- عن أهم هذه الأعمال .

تعتبر جدارية "خلق آدم " (creation adam ) للمبدع الايطالي "مايكل آنجلو" وهي تزين سقف كنيسة "سيستين" بالفاتيكان -العاصمة الروحية للكنائس المسيحية بروما- تحفة فنية انسانية حضارية، أخذت من "آنجلو" أربع سنوات ونيفا لاستكمال تفاصيلها (ما بين 1508 و 1512) ، يصور من خلالها الفنان الايطالي ما يقصد به الإله وهو يمد يده نحو آدم دون أن يلمسه في إحالة لعدم تكافؤ المنطق التكويني بين من كان له الخلود ومن كانت له علة الفناء كبشري ضعيف، ساهم عمل "آنجلو" في ترميم جدار الذاكرة الجمعية الأوروبية بلوحة فنية تختزل تلك المحاولة الدائمة والمتجددة للتواصل مع الخالق، إضافة إلى لحظة تقارب الأيادي دون وقع الملامسة في مقابل انفصال تام في رمزية ذكية للاستقلال الاختياري للإنسان بعد الاستقلال والخلق بمعنى تصويري فلسفي بديع، ويحيل هذا العمل الفني ويتقارب مع الوشائج والمعتقدات الدينية السائدة في كل الديانات السماوية وأغلب الديانات الوضعية، فآدم في الإسلام مثلا مفهوم جوهري في قصة خلق الإنسان، بل جاء مذكورا -لفظا- في القرآن الكريم، باعتباره المخلوق الأول من البشر الذي خلقه الله -عز وجل- ونفخ فيه من روحه، ونجد المصطلح حاضرا في قصص الخلق في سفر التكوين بالديانة اليهودية فقد خلق آدم -حسب هذه الأخيرة- من قبل إلوهيم (الله) كما أنه يمثل أول الخلق في الديانة الصابئية .

الشاهد عندنا في هذا المنحى ليس موهبة الفنان الإيطالي التي تفتقت بفضل عوامل متعددة و متنوعة - كان الإطلاع على منجزات الحضارات السابقة أحدها- لكن ما يهم حقا هو المشترك الإنساني الحضاري والذي كان حاضرا في هذا العمل، فضلا على ذلك الطموح الفطري المتجذر، و الرغبة المتأصلة في معرفة الله، عاكسا -الفنان- إرادته الفنية الحضارية في زخرفة سقف الكنيسة المسيحية -مخالفا تعاليم "البابا يوليوس".

شكلت جدارية "مايكل آنجلو" وصمة تأمل و فسحة تفكر في التاريخ الإنساني الحضاري المشترك واستحقت - بجدارة - أن تكونا إرثا إنسانيا خالدا بديعا رصينا مرصعا قدر له أن يشكل على سقف كنيسة مسيحية كناية ربما عن العلو و السمو الذي سعى الإنسان -تكلفا- الوصول إليه منذ القدم .

كثيرة هي التعاريف والحدود التي تحاول -جاهدة - تعريف الهيام أو العشق أو الحب على اعتباره إحساسا مشاعا بين الناس معروفا بينهم، فهناك من عرفه بعد أن وقر قدرنا بكلمة -أعزنا الله- "ابن حزم الأندلسي" حين قال: "أوله هزل و آخره جد دقت معانيه لجلالتها ولا يدرك إلا بالمعاناة"، وهناك من صقل حده باعتباره الرجفة و الحمى الجميلة التي تأسر دواخلنا، ومنهم من اختار كتابة تعريفاته على الجدران الفانية -على أكثرهم- بوصفه غراما، والغرام -من باب الإشارة فقط - هو شدة العذاب مصداقا لقول الحق ﴿إن عذابها كان غراما﴾وهو يصف جهنم المأسوف - سلفا- على داخلها، وبهذا الصدد، ومن باب المشترك دائما، فالحب قيمة مثلى يدركها من علت به الطبيعة الإنسانية إلى أعلى المراتب، وانتفضت على دوافعه العقلانية، وهزت أركان عرش قلبه في ثورة مجيدة للعاطفة، وإذا ما بحثنا عن الحب في آثار حضارتنا العربية وفي متون مكتوبها وجدنا ناصيته على ضفاف كل عصر، فامرؤ القيس مثلا هام بأم جنذب، وعنترة بعبلة،وتغزل قيس بليلى وأحب جميل بثينة، وخرقت ولادة بنت المستكفي القاعدة بالشاذ عندما أحبت ابن زيدون و أشعرت فيه، واختزلت إميلشيل أسطورة إسلي وتسليت وبحيرة الدموع، أما تجلي الحب في الحضارات الأخرى فقد استوطنت قصة الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف مع زوجته أولغا أو "الزوجة القمر" التي لطالما كان يحلم بها صدور الباحثين عن مناقب الهوى، وبنى شاه جان خان أسطورة حبه لممتاز محل بتشييده لبناء تاج محل في الهند.

إلا أننا في هذا الموضع سنتحدث عن فصل آخر من فصول الحب أو النسيب ونقصد به ذاك المتعلق بحب الإنسان لما دونه، فالحب كما أسلفنا ظاهرة كونية مشاعة بين الناس مأخوذة باللذة والعاطفة، وليس شرطا أو قصرا أن يحب الإنسان إنسانا مثله، وهذا ما نلمسه واضحا في أشعار رابعة العدوية مثلا التي أحبت الله وأخلصت له بل ولم تعرف معنى الهوى إلا به تقول :

عرفت الهوى مذ عرفت هواك***وأغلقت قلبي عمن عداك

و أحب نيرون الطاغية روما ولم يجد غير الحرق تعبيرا له عن هذا الحب المكنون في صدره لها، فأحرقها حبا حتى يتسنى له إعادة بناء محبوبته ولملة معالمها .

إن المشترك الكوني -من حيث الشكل و التفرد- زئبقي الضبط، صعب الإتيان، عسير المأخذ، ويصعب النظر إليه في سياقه بل ينبغي النظر إليه في شموليته وامتداده على بساط الزمن، واختلاف الأمصار، وتنوع الهويات، ولعل تيمة البحت من توفر لنا -مؤقتا- لذة الهدوء يقول ختاما الشاعر السوري علي أحمد سعيد الملقب بأدونيس واصفا طريق الوصول لكنه الأشياء وفحواها -مهما اختلفت الغايات- بحثا عن الهدوء المنشود :

متى أرى المشتهى وأبلغ المنتهى وأهدأ؟ قالت لي الدرب : هنا أبدأ .