السبت 20 إبريل 2024
مجتمع

عبد الوهاب تدمري: قراءة في التوافقات السياسية الجديدة.. الحيثيات والأسباب(5)

عبد الوهاب تدمري: قراءة في التوافقات السياسية الجديدة.. الحيثيات والأسباب(5) د.عبد الوهاب تدمري
تشرع جريدة "أنفاس بريس" في نشر حلقات من مقال تأملي للباحث د. عبد الوهاب تدمري بعنوان: "في صعوبات الانتقال إلى الديمقراطية"، وهو قراءة مستفيضة ناقش فيها كاتب المقال وجهة نظره وأفكاره وتحليله الشخصي للواقع السياسي وما يرشح به من تناقضات واشتباكات وتعقيدات.
إذن ومن خلال ما سبق فإن الوضع السياسي الراهن الذي يتميز ببروز ثلاثة فاعلين سياسيين أساسيين تغيب عنه القوى المسماة وطنية ديمقراطية، بعد أن استنفدت مهامها التاريخية وشاخت نخبها السياسية وأصبحت عاجزة عن تبوء أي دور يذكر في المشهد الحالي، كما تغيب عنه كذلك قوى اليسار الجذري الديمقراطي التي لم تتلمس منذ تأسيسها طريقها إلى مواقع الفعل والتأثير في الشارع السياسي المغربي رغم ما كانت تتمتع به من قوة في الحقل الطلابي. بالإضافة إلى ما يتسم به من ارتفاع لمنسوب الاحتقان الاجتماعي والسياسي نتيجة ما يمر به المغرب من أزمة مركبة وشاملة، لا يمكن له أن يستقيم دون أن تترتب عنه توافقات سياسية معينة بين الدولة المخزنية كطرف قوي وثابت في المعادلة السياسية بتحكمها في مفاصل الدولة وذلك، رغم ما تتسم به من ضعف وهشاشة في علاقتها بالمجتمع الذي فقد في غالبيته ثقته بها، وبين قوى الإسلام السياسي المشرقي التي تشكل قوى صاعدة تعتمد القضم التدريجي للمجتمع والدولة وتسوق نفسها كقوة قادرة على ضبطه رغم كل الصعوبات ذات الصلة بما كان يتمتع به المجتمع المغربي ولا يزال من خصوصيات روحية ودينية وثقافية عريقة شكلت مقومات مناعته تاريخيا في ما يخص علاقته بالمشرق الإسلامي وحالت دون انتشار هذه الحركات بالسرعة المطلوبة رغم الدعم والرعاية التي طالما قدمت لها داخليا وخارجيا. كما أن هذه التوافقات السياسية بين الطرفين الفاعلين في المشهد التي من غاياتها تطويع المجتمع مرحليا كطرف ثالث ممانع لكنه يفتقد لمعبر سياسي يتمثل مطالبه في الحرية والتنمية والديمقراطية، بقدر ما ،سيكون من غاياتها خلق شروط استقرار سياسي يضمن استمرار نظام الحكم المخزني، حتى وأن كان على حساب ما تمت مراكمته في مجالات الحقوق والحريات خلال العقد الأول من الألفية الثانية، وكذلك على حساب بعض القيم الحداثية للدولة والمجتمع الموروثة عن الحقبة الاستعمارية، بقدر ما ستعمل على ضمان المصالح الاستراتيجية للوبيات المالية والاقتصادية.
إن هذه التوافقات السياسية الجديدة تبدو إذن، ضرورية لتدبير المرحلة المقبلة وتحديد أدوار الفاعلين الأساسيين فيها بما يضمن الاستقرار السياسي والاجتماعي. إذن إنها بداية تحالف جديد، رغم ما يعتري هذا التحالف من تناقضات ظاهرية، بين الأصولية المخزنية وبين حركات الإسلام السياسي تنبئ بحدوث توافقات سياسية بديلة عن تلك التي نسجتها الدولة المخزنية مع أقطاب الحركة الوطنية إبان مرحلة بدايات الاستقلال، بعد أن فقدت هذه القوى هيمنتها على الشأن السياسي والثقافي، وتراجعت قدرتها على الفعل وتأطير وتوجيه حركية المجتمع، وهي التوافقات التي كانت ومازالت ضرورية بالنسبة لنظام الحكم المخزني من أجل ضمان استمراريته ولا يهمه في ذلك أن تتم بسلهام الحركة الوطنية، أو بالعباية الشرقية. كما أن هذه التوافقات البديلة يميزها عن ما سبقها كون أن ما مورس من عنف سياسي ضد المشروعات التاريخية الأخرى المعارضة كانت تتم بواسطة أحزاب الحركة الوطنية نيابة عن القصر أو بإيعاز منه خاصة في مرحلة الخمسينيات من القرن الماضي وكان شعارها في ذلك هو الدفاع عن العرش والمؤسسة الملكية ووحدة الوطن ضد اي معارض تحت طائلة الخيانة العظمى.. وبالتالي فهي تتحمل قسطا وافرا من المسؤولية في ما مورس من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان ومن تضييع الفرص فيما يخص الانتقال إلى الديمقراطية، أو بتدخل مباشر منه في مراحل لاحقة عندما استقوت المؤسسة المخزنية وبدا يطال عنفها حتى تلك القوى نفسها المحسوبة على الحركة الوطنية، وذلك من أجل إضعافها والتنصل من كل توافقاته السياسية معها، في أفق الانفراد بالحكم والسلطة، وهو ما لم تتورط فيه حركات الإسلام السياسي في المغرب بشكل واسع رغم ما اقترفته من جرائم في حق بعض المناضلين الشرفاء.
أما الآن، وبعد أن وصلت الدولة المخزنية في تغولها حد قضائها على الكثير من مقومات المناعة لدى المجتمع المغربي، وإضعافها لكل حلفائها التقليديين من أحزاب الحركة الوطنية وغيرها ،إضافة إلى محاربتها المستمرة للأحزاب التقدمية وتدجينها لكل المؤسسات الوسطية للمجتمع، في مقابل دعمها المباشر وغير المباشر في مراحل تاريخية سابقة لحركات الإسلام السياسي من أجل إنجاز البعض من هذه المهام. يمكن القول كذلك إن ما نشهده من توافقات بديلة تأتي، أيضا، في سياقات وطنية ودولية مغايرة تغيب فيها الحماسة الوطنية التي ارتبطت بسياقات مرحلة التحرر الوطني، التي كان يشهدها المغرب وتشهدها مختلف دول العالم الثالث، وذلك بعد أن فشلت كل الأطروحات الوطنية والقومية في تحقيق ما سطرته من أهداف تتمثل في التنمية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية خلال مرحلة الاستقلال الوطني.
وهي السياقات التي تتميز كذلك باستقواء الدولة المخزنية، وبسيادة الليبرالية المتوحشة التي تعمل جاهدة على إعادة تقسيم خارطة العالم وذلك وفق منهجية جديدة قائمة على مفهوم الحروب بالوكالة، سواء الناعمة أو العنيفة منها، من خلال تغذية الصراعات الطائفية والمذهبية وتفتيت النسيج الاجتماعي للدول والشعوب ،معتمدة في ذلك على حركات الإسلام السياسي وفروعها المتطرفة، التي أصبحت تشكل ثقلا سياسيا داخل هذه المجتمعات التي تعيش على وقع الأزمات والإخفاقات المتكررة، وذلك بعد أن وجدت عند هذه الحركات القابلية لتنفيذ أجنداتها وتأمين مصالحها الاستراتيجية في مقابل دعمها من أجل تمكينها من السلطة السياسية.
وفي حالة المغرب يمكن الجزم أنه لا يخرج عن هذه السياقات حتى وإن لم يأخذ هذا التدخل طابعا عنيفا لحد الساعة، بل سلسا لكنه يكرس نفس المضامين ولو بخصوصيات مغربية تتسم بتحالف السلطة المخزنية التي يبدو أنها فقدت السيطرة على المجتمع الذي انفلت عنها، وعن جل القوى السياسية الأخرى، وبين حركات الإسلام السياسي التي أصبحت تتحكم في المشهد السياسي والثقافي بعد أن تحكمت في الكثير من مفاصل الدولة والمجتمع الذي يعيش على واقع الأزمة والهشاشة وانسداد الآمال في المستقبل، وفقدان الثقة في الدولة ومؤسساتها، ساعدها في ذلك كذلك تحكمها في الحقل الديني وفي جل مؤسساته التي يتيحها لها مبدأ إمارة المؤمنين، هذا بالإضافة إلى ما تحظى به من دعم مادي ومعنوي خارجي ينسجم ومخططات الدول الرأسمالية الكبرى التي تعمل على إخراجها من أجل تفكيك وتفتيت الشعوب والمجتمعات بغية ضمان استمرارية مصالحها الاستراتيجية.