لا ضير أن نبني أبراجًا تنافس السحاب في ملامسة العلا،
ولا ضير أن نطلق سكة القطار فائق السرعة لنسابق الزمن،
ولا ضير أن ننافس دول البترول في بناء سلسلة الفنادق الفاخرة وسلسلة المولات التجارية!
ولا ضير أيضًا أن نكون شعبًا ذا قوة استهلاكية يرضى عنه البنك الدولي لنحتمي إن شح زمن السخاء بقروضه.
ولا ضير أن تهدم مساكن وملاعب ونعيد الإعمار عسانا أن ننال رضا العالم القادم إلينا ونحن نحتضن كأس العالم.
لا يشفع لنا الرضا عن ذلك كله إلا أن نكون أحسن دولة عربية جانبت غدر الثورات وظلت ترفل في ربيع فصله أخضر.
لا يشفع لنا الرضا عن ذلك إلا أن نكون أحسن شعب حين تكالبت عليه الكوارث فأبان عن خصلة نظرت حين هب لنجدة من امتحنتهم الأرض كلما زلزلت،
لكن أن نعيش زمنين متباينين! زمن سباق الريح وزمن سكونه... زمن رغد عيشه وزمن فقره. فلن أقول لا ضير!
ارتبكت كثيرًا وأنا أشاهد سلسلة على اليوتيوب لشاب آثر أن يسلك هو وحماره طرقًا وعرة لاكتشاف مغرب آخر وأمة أخرى فصلها الزمن لتكون ولتظل بدائية العيش... رحل هم... اعتادوا على الخلاء والهواء والمواء وهسيس الريح التي تعتم فيها اللواقح... ويندر الماء والكلأ... ويكثر الصبيان في العشة التي تأوي أسرة يتعدى أفرادها أصابع اليدين.
حفاة شبه عراة... فتيان وفتيات... أم لم تخل يدها من حناء مائل لونها إلى السواد... وعيون غطاها الكحل ما تبقى من بريق الإنسان... وشعر كثيف أسود ملفوف بمنديل أحمر دلالة على الخصوبة!
إنها تعيش لحظات ميلاد الصبي هو الآتي دون صخب مستكينًا وكأنه يدري المآل.
عجبت لرب البيت العشة لانشراحه وضحكاته... لتلك القسمات التي لفحتها شمس البراري... غير آبه بالأفواه ولا الأجساد المكومة حوله... يغرد "امديازن" محتفلاً بعقيقة القادم إلى ملكوت الله... إلى الأرض الخلاء حيث تأبى الحياة إلا أن تكون لنا نحن جحيمًا...
سكر... شاي ودقيق وبالكاد صحن مرق وبطاطس تمتد إليه الأيادي. لم يتأفف الأب ولا ربة العشة من عدم مد الموائد... وذبح كبش العقيقة، ولا الأجساد الملقاة على الكراسي وهي في أزهى الحلل... ولا رشات ماء الزهر وروائح البخور وأطباق الحلوى والزغاريد...
جاء الصبي إلى ملكوت الله لا يشفع له في الوجود إلا ثدي ترضعه التقوى وأب ينشده ما تبقى من فرح... وإخوة هم حبات العقد عساه ألا ينفرط...
نعيش زمنين... زمن اختصار المسافات بالقطار فائق السرعة وزمن تأبى المسافة إلا أن تظل في نقطة البدايات.
نعيش زمنين... زمن مغرب مبهر ببرجه وقطاراته... بمولاته وسلسلة فنادقه... بطرقه وأنفاقه ومغرب أبى الزمن فيه إلا أن يتوقف وكأنه اجتث اجتثاثًا ليظل في بؤسه وشقائه.
اعتصر القلب للمغرب المنسي إلا من سكانه الذين يعدون أرقامًا في دليل الإحصاء والتنافس الانتخابي...
إنه الإعلام المواطن ذاك الذي قادنا إلى كشف ما تتستر عليه قنواتنا الرسمية.
فطوبى للشاب المغامر الذي جاب البلاد بحماره ليتفقد من توقف لديهم الزمن.