الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

يوسف لهلالي: هل يستمر رهان القوة بين الرئيس الفرنسي و"السترات الصفراء"؟

يوسف لهلالي: هل يستمر رهان القوة بين الرئيس الفرنسي و"السترات الصفراء"؟ يوسف لهلالي
 هل يستمر رهان القوة بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، الذي دعا إلى "نقاش وطني كبير "وبين السترات الصفراء الذين دعا بعضهم إلى تظاهرة أخرى بباريس السبت المقبل، وهي التظاهرة السادسة رغم المشاركة الضعيفة التي سجلت في الأسبوع الماضي، وذلك بفعل حالة الاستثناء التي شهدتها العاصمة على المستوى الأمني سواء، من حيث القوات التي تم استنفرها، وعملية إقفال 50 محطة ميترو، أو انتظار المتظاهرين في محطات القطار من طرف عناصر الشرطة، ونسبة الاعتقال الكبيرة وسط المحتجين وهو ما جعل العديد منهم تفضيل التظاهر بمناطقهم وبملتقيات الطرق بدل السفر نحو العاصمة.
لكن، هل هذا الضغط الكبير على الحركة سوف يسهل الحوار معها أم أنه يمكن أن يولد انفجارا واستمرارا في الحركة التي توسعت مطالبها وتحولت، مما هو اجتماعي إلى ما هو سياسي، دون الحديث عن الخسائر الكبرى التي خلفتها هذه الاحتجاجات في العاصمة الفرنسية؛ من الجانب المادي نتيجة العنف الكبير التي تخللها أو من حيث خسائر التجارة التي تزدهر بمناسبة أعياد نهاية السنة والتي تجاوزت خسارتها مليارين من اليورو، حسب بعض الإحصائيات الأولية.
دون الحديث عن الخسائر المعنوية لصورة فرنسا في العالم وصورة العاصمة التي مازالت أول وجهة سياحية في العالم، وهل ستحافظ على هذه المكانة بعد كل هذه الإحداث؟
الرئيس الفرنسي بعد أن تجاوب مع العديد من المطالب الاجتماعية لسترات الصفر يطمح أن يشاركوا في"النقاش الوطني الكبير" الذي دعا إليه حول مطالبهم ومغادرة ملتقيات الطرق التي يحتلونها منذ أكثر من خمسة أسابيع، وقد بدأ قصر الاليزيه في استقبال الوزراء والفاعلين الاقتصاديين بفرنسا من اجل المشاورات الوطنية من أجل إعلان الإجراءات المرتبطة بالجواب على أزمة السترات الصفراء. وهو نقاش مازال مستمرا حتى داخل أعضاء الحكومة لتحديد طبيعة هذا النقاش .
كاتبة الدولة في المساواة مارلين شيابا طالبت السترات الصفر بوقف المزايدات على الحكومة والمشاركة في هذا النقاش الوطني، بعد تحقيقي العديد من المطالب منها حذف الضريبة عن الكاربون وتحسين القدرة الشرائية".
وتضيف"يقال لنا أن هناك مطالب جديدة، هذا ليس معقولا". هذا التصريح يتماشى مع ما علنه وزير الداخلية الفرنسي كريستوف كاستنير الذي قال أنه " لا يمكن الاستمرار في التسبب في شلل الاقتصاد الفرنسي والتجارة في قرانا ومدننا" ومنذ بداية هذه الحركة الاحتجاجية لأكثر من شهر فقد الاقتصاد الفرنسي حوالي مليارين من اليورو،حسب المجلس الوطني لمراكز التسوق. وذلك بفعل الشلل الذي تسببت فيه هذه الاحتجاجات بالعديد من المراكز التجارية ومراكز تخزين الوقود.
رئيس الوزراء أدوار فيليب بدأ هو الآخر التحرك هذا الأسبوع من اجل احتواء الأزمة وتطبيق الخطوات التي اتخذها الرئيس وشرحها للفرنسيين، وأكد انه تلقى رسالة من الفرنسيين " إنهم يريدون أن نتخذ قرارا سريعا حول القدرة الشرائية مع إشراكهم بشكل أكبر في اتخاذ هذا القرار." وذلك في محاولة منه لاحتواء ازمة غير مسبوقة والتي تهز فرنسا منذ أكثر من شهر.
ويطمح رئيس الوزراء الفرنسي أن يصادق البرلمان بسرعة على حزمة من الإجراءات لتدخل حيز التنفيذ في شهر يناير المقبل وهي إجراءات تمس الزيادة في الحد الأدنى للأجور، اعفاء الساعات الإضافية من الضرائب، واستثناء بعض المتقاعدين من الضرائب، وهي إجراءات من شأنها ان تفاقم العجز الفرنسي في سنة 2019 إلى حدود 3.2 في المائة.
أما النقاش الوطني الذي دعا إليه الرئيس فمن المتوقع أن ينطلق بسرعة ويستمر حتى حدود شهر مارس من السنة المقبلة والذي سيلعب فيه رؤساء البلديات دورا أساسيا والذي سوف يتطرق إلى أربعة محاور أساسية وهي : الانتقال البيئي، الضرائب، التنظيم البيئي والديمقراطية والمواطنة، أما المحور الخامس الذي كان من المتوقع أن يكون حول الهجرة واللجوء بفرنسا فقد تم التراجع عليه تحث ضغط عدد من نواب الأغلبية وتم دمجه في محور الديمقراطية والمواطنة.
رئيس الوزراء أعلن انه يؤيد مبدأ الاستفتاء بمبادرة من المواطنين وهي احد المطالب الأساسية لسترات الصفراء، وهو ما سيدفع الرئيس الفرنسي إلى تأجيل الإصلاح الدستوري الذي وعد به من اجل فتح المجال لنقاش بفرنسا وليأخذ بعين الاعتبار الاقتراحات الجديدة التي جاءت بها الاحتجاجات والتوصيات التي ستنجم على النقاش الوطني الذي فتحه الرئيس.
لقد كثر الحديث عن هذه الحركة بين الرفض والقبول والاتهامات الكثيرة لها من قدماء زعماء حركة 68 الذين يرى احد زعمائها كوهن بنيديكت أنها "حركة فاشية"، مصرحا "أننا كنا نتظاهر ضد جنرال في الحكم اليوم يتم المطالبة بجنرال على رأس الجمهورية" "وهو تحليل كاريكاتيري لهذه الحركة التي تعتبر "حركة لا يمكن تصنيفها أو وضعها في خانة معينة" كما قالت المؤرخ ماريون فونتين، من المؤكد أن هذه الحركة بينت انقسام فرنسا بين من يدافعون على الانتقال البيئي وبين من يعانون من اجل توفير الديزيل لذهاب إلى العمل ومن اجل تسخين المنزل. وهو ما يجعل القضية الاجتماعية في صلب هذه الحركة والتي خرجت للمطالبة بتحسين الأوضاع والقدرة الشرائية قبل أن تتجاوز مطالبها ما هو اجتماعي نحو ما هو سياسي وحول التمثيلية في المؤسسات وتفعيل بند الاستفتاء على الطريقة السويسرية حيث يمكن للمواطنين المطالبة بتغيير أو أحداث قانون في حالة توفر عدد معين من التوقيعات.
الانقسام الذي أحدثته "السترات الصفر" في المجتمع الفرنسي يعكس الأزمة العميقة التي يعيشها هذا البلد، بين فئات اجتماعية استفادت من التحولات التي قدمتها العولمة وترغب في استمرار هذا التحول وتدعم الانتقال البيئي الذي دافعت عنه فرنسا في الكوب حول البيئة، وبين فئات اجتماعية متضررة من العولمة ومن التحولات التي عرفها عالم الشغل وكذلك من الضرائب التي تدعم الانتقال البيئي وهي فئات تقطن القرى أو هوامش المدن وتعتمد على السيارة في التنقل وعلى محروق الديازيل، وكذلك في التسخين وأحيانا في العمل، والتي تعتبر هذا الانتقال البيئي والضرائب التي يفرضها عاملا مضرا بقدرتها الشرائية ، وقد لخص احد المحتجين هذه الوضعية بالقول اتجاه الحكام الفرنسيين بباريس "انتم تريدون معالجة قضية نهاية العالم، أما ان فأريد معالجة قضية نهاية الشهر" وفي ذلك تلميح حول وضعية العديد من الفرنسيين الذين يجيدون صعوبة كبيرة في إنهاء نهاية الشهر لقلة إمكانياتهم المادية والتي ترهقها تضاعف الضرائب التي يعتبرونها غير عادلة خاصة الضرائب على المحروقات.
هذه الوضعية جعل هذه الفئات تخرج من صمتها لتحتل ملتقيات الطرق ومداخل المراكز التجارية التي تقع في مداخل المدن الفرنسية، وهي حركة لم يأخذها الحكم المركزي بباريس بعين الاعتبار في البداية، لكن استمراريتا وأحداث العنف الكبيرة التي تخللتها بباريس وبعض المدن الفرنسية، والشعبية الكبيرة التي نالتها هذه الحركة وسط الرأي العام الفرنسي كلها عوامل أجبرت قصر الاليزيه إلى اتخاذ إجراءات سريعة على المستوى الاجتماعي والضريبي والى الاستماع إلى هذه الفئات والى إطلاق مشاورات وطنية كبرى من اجل تسجيل مطالبها.
اليوم بعد خمسة أسابيع من الاحتجاجات، وبعد تحقيق بعض مطالبها وتجميد الضريبة على الوقود التي كانت سبب في إطلاق موجة السخط هذه، فان الحركة منقسمة بين أغلبية تريد الحوار مع الحكومة والمشاركة في هذا النقاش الوطني بعد ان تحققت العديد من المكاسب والتجاوب مع المبادرة التي أطلقها ايمانويل ماكرون على المستوى الوطني وبين فئة تريد الاستمرار في الاحتجاج حتى تحقق جميع المطالب وهي الفئة التي دعت إلى تظاهرة سادسة بباريس يوم السبت المقبل.