الثلاثاء 19 مارس 2024
في الصميم

السترات الصفراء وسياسة "العامرة في خاوية" لقنوات فرنسا !

السترات الصفراء وسياسة "العامرة في خاوية" لقنوات فرنسا ! عبد الرحيم أريري

ليس المقام هنا تحليل أسباب سخط الشارع الفرنسي على حكومة إدوارد فيليب والرئيس ماكرون، ولا يسمح المقام بتسليط الضوء على أسباب انزلاق الحركة الاحتجاجية بباريس للعنف الخطير، بل ما يثير التساؤل هو العدد الكبير جدا من المعتقلين الذين قبضت عليهم الشرطة الفرنسية في يوم واحد من احتجاج "السترات الصفراء": العدد بلغ يوم 8 دجنبر 2018 حوالي 1800 معتقل (أي 1,3 في المائة من عدد المحتجين الذين خرجوا للتظاهر يوم السبت المذكور).

وسائل الإعلام الفرنسية (خاصة المرئية وبدون استثناء)، كانت تتعامل مع الحادث وكأن لها رئيس تحرير واحد يوجهها ويملي عليها ما تقول. فالقاموس الذي ظلت تردده القنوات الفرنسية (على لسان صحفييها ومنشطي برامجها الحوارية وكذا على لسان السياسيين الفرنسيين الذين استضافتهم هذه التلفزات) هو : "المخربون" والراديكاليون" les casseurs/ les radicaux "الذين "يسيئون للمسار الاحتجاجي"!

وكما قلت، المقام لا يسمح هنا باستعراض مسارات الاحتجاج في هذا البلد أو ذاك، وشرعية المطالب أو لا، واحترام قوات الأمن بهذه الدولة أو تلك للمعايير الأممية لتفريق المحتجين أم لا، ولكن من حق المتتبع أن يتساءل: لنفترض أن شرطة بلد أسيوي أو إفريقي أو بأمريكا اللاتينية أو بالعالم العربي قامت باعتقال 1800 فرد في شهر وليس في يوم واحد، ترى ماهو القاموس الذي ستستعمله قنوات فرنسا ونخبتها الحزبية والسياسية؟ وهل ستتعامل مع المعتقلين كمخالفين للقانون بهذا البلد أو ذاك أم ستتحول إلى أداة بيد الإيليزيه وماتينيون ل"تسخين الطرح"، ضد البلد المعني ؟!

لا يهمني الجواب بقدر ما استفزني كسل وبلادة فيصل العرايشي مدير القطب العمومي وسليم الشيخ مدير دوزيم (وزيد عليهم مدير ميدي 1تيفي)، الذين لم يبعثوا أي فريق تلفزي إلى باريس لتغطية احتجاج السترات الصفراء، علما أن هذه القنوات تابعة للدولة وتغرف من خزينة المال العام الوفير.

فإذا سقط فرد من على دراجته في الموزمبيق أو خرج مشرد للاحتجاج ببوغوتا أو تعالت صيحة تلاميذ غاضبين بالتبت أو تجمهر بضعة عمال مطرودين بشارع بورقيبة بتونس، نجد فرنسا تعبئ قنواتها التلفزية وترسل كتائبها الاعلامية (مع ما يتطلب ذلك من مصاريف مكلفة للسفر بالطائرة والفندق و التنقل والترجمة ومصاريف المرافقين بالبلد المعني ومنحة "الديبلاصمة" الخ....) وتشرع في قصف الرأي العام بتحاليل وأخبار مخدومة ومطبوخة في ردهات مكاتب "الدولة العميقة لفرنسا"، في حين لما يغلي الشارع الفرنسي نجد هذه القنوات التلفزية تشهر الحياد المخدوم الذي يغلب مقاربة أحادية لشيطنة حركة السترات الصفراء. بدليل أن التلفزات الفرنسية لم تواكب أصلا هذا الاحتجاج في الأسبوعين الأولين بالإيقاع المطلوب، ولم تشرع في المواكبة إلا بعد أن احترقت باريس في السبت الأول من دجنبر و"احتل" المتظاهرون قوس النصر وحاولوا الزحف نحو القصر الرئاسي لماكرون لكن تصدت لهم قوات قمع الشغب بقوة. أضف إلى ذلك أن المتظاهرين طردوا صحفييى القنوات الفرنسية واتهموهم بعدم ممارسة التغطية الحيادية، لدرجة أن العديد من الصحفيين الفرنسيين كانوا يتحركون تحت حراسة أمنية مقابل اليسر والسهولة التي كان يتحرك بها صحفيون أجانب معتمدون بباريس. وهذا ينهض كمبرر لـ "يغسل" المرء يديه على الإعلام التلفزي الفرنسي الذي ظل مصابا بالغرور ويلقن الدروس "الخاوية في عامرة" لباقي دول المعمور.