قبل أيام سرق الزورق الشبح أو "الفونتوم" الضوء ولهب المواقع الاجتماعية بمختلف تلويناتها، بل و امتد صداه إلى الصحافة الورقية و المرئية، وصار مادة دسمة لعدد من المقالات والتحليلات الصحفية، وبالنسبة لمرشحي الهجرة السرية الحالمين بالجواز إلى الضفة الأخرى، بـدت العلاقة" بين "الفونتوم" و "المهاجر السري" كعلاقة "الشيخ" ب"المريد".. لكن "الشيخ" هنا ليس هو المقصد أو الغاية، بل هو وسيلة للخلاص من مخالب واقع من عناوينه البارزة "اليأس" و"الإحباط" و"انسداد" الأفق، والارتماء الأعمى في حضن عوالم أخرى، يتخيل أن من شأنها ترميم الجراح ابتداء و بناء الذات المنهكة انتهاء بعيدا عن الوطن، وعليه فالدافع إلى كتابة هذا المقال، ليس القصد منه تسليط الضوء على ظاهرة مركبة و معقدة (الهجرة السرية) أو إعادة سرد ما جرى في الأيام الأخيرة بعدما انتشر خبر" الفونتوم" كما تنتشر النار في الهشيم وسط فئات عريضة من مرشحي الهجرة السرية، لكن هو محاولة متواضعة لتفكيك ما يمثله هذا "الشبح" من أبعاد ودلالات مثيرة للقلق تعكس في مجملها أزمــة في المواطنة.
بانتشار خبر هذا "الفونتوم" في شواطئ تطوان، سارت منطقة الشمال مقصدا لعشرات من مرشحي الهجرة السرية الذين قدموا فرادى و جماعات، اقتناصا لفرصة الهروب إلى الضفة الأخرى مثن "الشبح"، بل وسيصبح هذا الشبح محبوب الجماهير (الحراكة) بعدما تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي لمقاطع فيديو لمهاجرين سريين يوثقون لعملية تهجيرهم ووصولهم إلى الضفة الأخرى بالصوت والصورة، لتتوالى الاحتجاجات وسط المهاجرين السريين المرابطين بشواطئ الشمال الذين هتفوا بشعارات قوية مثيرة للسؤال والقلق في نفس الآن من قبيل " الحق في الحريك فابور"، "نريد الذهاب إلى إسبانيا" و" تحيا إسبانيا تحيا إسبانيا "، "فيفا إسبانيا"، بل و رفعت أصوات - تزامنا مع استشهاد الطالبة "حياة" رميا برصاص دورية للبحرية الملكية - تندد بمنع المهاجرين السريين من قبل قوات الأمن وتطالب السماح بالهجرة إلى الضفة الأخرى، و هذه الشعارات وغيرها لاشك أنها كسرت كل الرؤى والنظريات المرتبطة بمعضلة الهجرة غير المشروعة، بعدما أزالت عنها كل مفردات السرية و الحيطة و الحذر و الكثمان، وحلت محلها أصوات خرجت إلى العلن بشكل غير مسبوق مطالبة بالحق في الهجرة السرية، ولم يقف الطابع العلني عند هذا الحد، بل امتدت رقعته إلى حد إقدام مرشحين لتوثيق عملية تهجيرهم بالصوت و الصورة بنوع من الفخر و الحماسة، لكن الملفت للنظر هو رفع شعارات تمجد الدولة الجارة التي ما زالت تبسط يدها على مدينتي سبتة و امليلية...، وكلها تعبيرات عفوية لا تعكـس فقط أزمة عميقة في المواطنة، بل تعبر بجلاء عن جيل صاعد من الشباب ضاقت بهم السبل واختلطت بهم المسالك يعيشون في عوالم من الفقر و الهشاشة المعرفية و الأخلاقية و السياسية والقيمية، أضحى فيها "الوطن" -بالنسبة إليهم- مرآة عاكسة لكل معاني الألم والآهات و الحرمان ومعبرة في ذات الآن عن كل أحاسيس اليأس والإحباط وانسداد الأفق أمام شريحة عريضة من المواطنين الذين أصبح بعضهم لا يتردد في المطالبة بإسقاط الجنسية والتهديد بالهجرة الجماعية كما لوح بذلك عدد من ساكنة دواوير صفيحية بالدار البيضاء طالتها عمليات الهدم.
لكن وبعيدا عن سلطة القانون و المؤسسات، يمكن تقبل الحلم الذي يسكن البعض في الهجرة سرا إلى الضفة الأخرى، لكن غير مسموح بأي شكل من الأشكال الإساءة للوطــن بالإهانة أو السب و رفع شعارات تمجد دولة أخرى أو المطالبة بإسقاط الجنسية، أو بالفساد السياسي أو الاختلاس أو الجري وراء المصالح الضيقة أو التراخي في خدمة الصالح العام...، فمهما كانت حدة الصعوبات والإكراهات المتعددة المستويات التي يعاني منها "الوطن"، فحب هذا الوطن - الذي دافع عنه الأجداد عبر التاريخ بكل مسؤولية ومحبة وتضحية ووفــاء ونكران للذات - لا يمكن أن يخضع لمنطق المساومة والحسابات الضيقة، ومسؤولية حمايته والدفاع عن مصالحه ملقاة على جميع المواطنين والمواطنات بدون استثناء.
توسيعا لزاوية الرؤيـة، ودون الخوض في تفاصيل هذا "الزورق الشبح" وظروف وملابسات تردده على المياه المغربية ونقله لمهاجرين سريين مجانا حسب المعطيات التي راجت وقتها وسط المرشحين، فقد عكس -الإقبال عليه من طرف فئات عريضة من الشباب - حقيقة واقع سياسي مقلق أصبحت من خلاله "السياسة" مقترنة بمفردات الفساد و الوصولية والانتهازية، مما جعل فئات من الشباب يختارون طريق الموت بحثا ليس فقط عن شغل قار من شأنه تحسين الظروف المعيشية، ولكن أيضا بحثا عن الكرامة والصحة والسكن اللائـق وسيادة القانون والقضاء والتعليم الناجع والمساواة الفعلية والعدالة الاجتماعية، واقع من تجلياته البارزة تراجع دور الأحزاب السياسية التي تحول معظمها إلى "دكاكين سياسية" شغلها الشاغل البحث عن الكراسي و المناصب و الظفر بالمسؤوليات و التموقع الجيد في المشهد السياسي، بدل تأطير المواطنين سياسيا وثقافيا و تربويا، ونقابات أفل نجمها ولم تعد قادرة على الإنصات إلى نبض الشارع والتعبير عن اهتمامات وتطلعات المجتمع، مما جعل الشوارع ملاذا للاحتجاج والتعبير عن المطالب و الحقوق ذات الصلة بالشغل و الكرامة و السكن و العيش الكريم، وحكومة تنشغل أحيانا بخلافاتها الجانبية عوض أن تنتبه إلى نبض المجتمع وتستشعر خطورة المعضلات الاجتماعية، بتنزيل سياسات اجتماعية قادرة على تحقيق السلم الاجتماعي، ومعارضة برلمانية يكاد لا يسمع لها صوت، وغياب سياسات جريئة في مجال مكافحة الفساد، قادرة على تنزيل وتفعيل "مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة" بشكل يجعل المواطنين يثقون في الفعل السياسي، وسياسات تعليمية يعتريها الارتجال وغياب الرؤية الثاقبة، أسست عبر سنوات لمدرسة عمومية أضحت متجاوزة على مستوى البنيات والمناهج والبرامج، ولم تعد قادرة على ترسيخ قيم المواطنة و حب الانتماء إلى الوطن، وفقدان الثقة في جامعات غير متجددة فقدت جاذبيتها "تفرخ" كل سنة آلاف العاطلين...
عموما وبناء على ما سلف، فما ردد من شعارات قوية و صادمة، لا يمكن لعاقل التعامل معها بنكران أو تجاهل أو لامبالاة، فهي مرآة عاكسة لواقع اجتماعي يبدو كجمر راقد تحت رماد ساكن أو كبركان هامد قابل للانفجار في أية لحظة، والوطنية الحقة تقتضي اليوم قبل الغــد وضع حد لحالة الميوعة التي يشهدها المجال السياسي منذ سنوات والتي عمقت الهوة بين المواطن والسياسة، وقوت الإحساس بفقدان الثقة في السياسة والأحزاب السياسية والانتخابات والقانون والمؤسسات و القضاء والنقابات وغيرها، وإذا كانت مسالك الفساد متشعبة، فلا مناص من تطبيق وتنزيل مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة" وفرض سيادة القانون و هيبة القضاء، لقطع الطريق أمام الكائنات السياسية التي تلهث وراء المناصب و المسؤوليات و الكراسي غير مكترثة بقضايا و مشاكل و تطلعات شعب أرهقه الصبر و أتعبه الانتظار، على أمل أن يداعب نسيم الوطن مشاعر مختلف الفاعلين السياسيين والاقتصاديين و الاجتماعيين.. إنقاذا لمواطنة توجد على حافة الانهيار...