لن أذهب إلى حد الحديث عن طيف ماركس الذي يلاحقنا spectre de Marx كما فعل الفيلسوف الراحل دريدا في إحدى كتاباته الأخيرة، ولن أتحدث عن العودة القوية لماركس كما فعل العديدون بعد الأزمة العالمية التي كادت تعصف بالمنظومة المالية الرأسمالية في معاقلها الكبرى سنة 2008، والتي تطلبت لتجاوز مخلفاتها تدخلات قوية ومكثفة للحكومات في بلدان ليبرالية عريقة تميزت دوما بالحرية المطلقة للأسواق.
لن أذهب إلى حد ذلك، ولكن ما ألاحظه من حولي في مجتمعنا اليوم من تطورات تبين لي أن مؤلف الرأسمال كان على حق، بل وعلى أكثر من حق وهو يرصد قوانين الانتشار الرأسمالي وكيف تفعل فعلها في السلوكات والعقليات والقيم والمعتقدات وتولد وتخلق تعلق الناس بلا حدود بالمال والسلع، التي تصبح هي قيمة القيم ومستودع كل قياس اجتماعي للوضعيات، بصرف النظر عن الخطابات المصاحبة واختلاف النوايا والدواعي.
لا حديث في كل الأوساط وفي كل أركان وزوايا وفضاءات الحكي وتصريف الخطاب إلا عن المال والسلعة والربح والقيمة المادية والثروات. في المقهى والسوق ومحلات العمل و أماكن الخدمات والترفيه.
لن تسمع اليوم حديثا يعلو عن حديث المال والقيمة مقاسة بالمال. حمى حقيقية استبدت بالجميع وأزاحت إلى الهامش عمليا ما عداها من قوى أو قيم رغم ما يتظاهر به الناس من مسلكيات تفيد ظاهريا غير ذلك.
وحينما أرى ذلك أقول الآن فقط وصلنا إلى تلك الحالة الاجتماعية والسلوكية والسيكولوجية التي تحدث عنها ماركس وهو يرصد المنطق العميق لعلاقات الإنتاج الرأسمالية والمجتمع الرأسمالي. الآن فقط وصلنا إلى النموذج الذي أفاض ماركس ببراعة في وصفه وتحليله ورصد تداعياته على بني البشر.
وأقول أيضا تبعا لذلك، ليس ماركس من كان ماديا كما تذهب إلى ذلك تأويلات سطحية لفكره أو قراءات مجتزئة من سياقها، بل ما هو مادي من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين هو النمط الرأسمالي الذي يحيل المادة والماديات والمال والسلعة إلى مركز الوجود الاجتماعي وبؤرة الاهتمام الأولى والأخيرة في حياة الناس.