يعيش الأصوليون بالعالم العربي، كابوسا رهيبا بعد نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وهو الرعب المرتبط بهبوط أطروحة أوباما التي كانت تغازل الإخوانيين والسلفيين وتوظفهم لخدمة خريطة جيواستراتيجية جديدة. رعب الأصوليين راجع أيضا لكونهم يحسون بأنهم أصبحوا بلا أب روحي يمولهم ويدعمهم.
ستظل رئاسيات 2016 موشومة في ذاكرة الانتخابات السياسية الأمريكية، لا لأنها حملت إلى البيت الأبيض مرشحا بلا ماض سياسي، ومثيرا للجدل ينكل بالمهاجرين والأقليات، بنفس القدر من الوقاحة التي ينكل بها بالنساء والسود. بل لأنه بالإضافة إلى ذلك يسجل أول انبثاق لحالة غير مسبوقة في تاريخ الترشيح والفوز في كل الأنظمة المعتبرة ديمقراطية. ذلك أن ترامب قد تقدم باسم الحزب الجمهوري لكن لا شيء قد أكد خلال حملته للانتخابية أنه يتبني بالفعل خط ذلك الحزب. بل على العكس من ذلك تماما فقد ألقى بتصريحات تتناقض مع أطروحات الجمهوريين، ومع ما يعتبر هناك قيما رسمية للولايات المتحدة الأمريكية. وبالنسبة للذين يقللون من تداعيات وآثار وصول ترامب إلى سدة الحكم فهم يرون أن كل الأفكار المعلنة خلال الحملة الماضية لا يمكن أن تجد سبيلها للتحقيق على اعتبار أن المشرعين الجمهوريين الذين يتحكمون في مجلسي الشيوخ والنواب لا يمكن أن يصادقوا على ما يرونه ضربا للثوابت المشتركة لأمريكا. بل إنهم يملكون حق إقالة الرئيس نفسه إذا ما رأوا أن استمراره في موقع الرئاسة قد يهدد تلك الثوابت. ولمزيد من الطمأنة يؤكدون أن ترامب قد عدل الكثير من تصريحاته بمجرد ما تم انتخابه رسميا، وبالتالي فالتتويج الرئاسي قد ينتج عنه ترامب جديد.
الميزة الثنائية لصعود الرئيس الجديد (الخامس والأربعين في تاريخ رؤساء بلاد العم سام) ترتبط بما يعتبر تناقضات سلوك وخطاب ترامب. ذلك أن الرجل واضح في إعلانه الحرب على تنظيم «داعش»، مثلما هو واضح في دعم إسرائيل التي وعدها بنقل عاصمتها إلى القدس. هو مع الحرب ضد الإرهاب في الشرق الأوسط دون أن يمنعه ذلك من إعلان حرب إرهابية مكشوفة ضد المسلمين والسود والمهاجرين والأقليات الإثنية، وهو مناهض لقضايا النساء، ومتورط في نفس الوقت في الشغف بمبدأ الإدمان عليهن بالزواج وبدونه، وهو مدعم لصفحة جديدة مع زعيم الكرملين ومناهض في ذات الوقت لإيران وللاتفاق النووي الموقع معها كما لو كان يجهل استراتيجية التحالف بين موسكو وطهران (انظر
المؤطر)...
لكن مثل هذه الميزات لا تغيب مع ذلك فكرة أن أمريكا توجد في المنعطف اليوم، إذ رغم ما يمكن أن يعتبر عائقا تشريعيا داخل المجلسين، ورغم كل التعديلات الشفوية التي بدأ يطلقها ترامب بعد نجاحه. فالمؤكد أن الرجل قد أزعج العالم، ويكفي أن نستعيد ردود فعل القوتين العظميين في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا وفرنسا) إزاء صعوده وهما تستعيدان تهديداته المرتبطة بمآل اتفاقية التجارة الدولية مع الاتحاد الأوربي نفسه، ومآل العلاقة مع الحلف الأطلسي. وكان آخرها القلق الذي زرعه في صفوف المتناظرين في قمة التغيرات المناجية المنعقدة مؤخرا في مراكش إضافة إلى التفاعلات الأخرى مثل مناداته ببناء جدار حدودي مع المكسيك بتمويل مكسيكي ومطالبته بالتعويض عن حماية اليابان وكوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية من الأخطار التي تحددها من داخل المحيطين الإقليمي والدولي، وكذلك التداعيات المرتبطة بخرائط جديدة يهيؤها للمناطق الملتهبة، وضمنها الشرق الأوسط وغيرها من مناطق التوتر في العالم.
في مقدمة هذه التداعيات التي تشكل محور غلاف هذا العدد ("الوطن الآن") ما نتصوره من كابوس رهيب يعيشه الأصوليون بمختلف تشكلاتهم في العالم العربي ـ الإسلامي بعد تصريحات دونالد ترامب حول الإرهاب من جهة، وحول مشروع التحالف الجديد مع بوتين وبشار الأسد ضدا على التنظيمين الإرهابيين: «داعش» وفتح الشام (النصرة سابقا) وما يسمى المعارضة المعتدلة، أبطال المشهد الاقتتالي في سوريا اليوم. ومن هنا مصدر رعب الأصوليين (بشقيهم السلفي والإخواني) الذين رأوا في صعود ترامب هبوط أطروحة باراك أوباما والإدارة الأمريكية بخصوص واقع الصراع الجاري اليوم على امتداد الخريطة العربية - الإسلامية.
جدل الصعود والهبوط هو ما يدمر المقاربة الأمريكية التي هيمنت على المنطقة منذ انتخاب أوباما في الولاية الأولى (2008)، والتي استندت على إدماج فكرة الشرق الأوسط الكبير والجديد مع أطروحة الفوضى الخلاقة التي آمن بها المحافظون الجدد بقيادة الثنائي بوش الأب والابن، وجسدتها كونداليزا رايس في أفق إقرار واقع عربي جديد منذ غزو العراق تحديدا. وتجسيدا لذلك الأفق كانت إدارة أوباما قد نعت القيادات العربية مبشرة بإمكانية الرهان على ما يعتبرونه الإسلام السياسي المعتدل لتسلم الحكم، وإخضاع تمدد الإرهاب القاعدي والداعشي تحت المراقبة لتمزيق البنى القائمة باتجاه خرائط جديدة.
من هنا كان دعم أوباما الواضح لما سمي بـ «الربيع العربي»، بل الاصطفاف المباشر للسفارات الأمريكية من أجل رعاية الإخوان المسلمين، ومساعدتهم على تدليل كل الصعاب من أجل استلام الحكم. ولا يحتاج الأمر إلى كثير من التدليل بعدما ثبت أن السفارة الأمريكية في القاهرة مثلا كانت قد تحولت إلى مكتب انتداب يتتبع بالتفصيل انتفاضات ميدان التحرير في العاصمة المصرية، وفي غيرها من ميادين دار الكنانة، وتحاور كل الأطراف بما فيها المجلس العسكري واليساريين والإخوان المسلمين لترتيب مرحلة ما بعد مبارك إلى غير ذلك من عناصر السيناريو الذي سقط بعد عزل مرسي، وبعد التراجع التكتيكي للإخوان المسلمين بتونس، وبعد انحلال الدولة والمجتمع في كل من اليمن وليبيا، إضافة إلى مشاهد التدمير الذاتي في العراق وسوريا، فضلا عن الغزل الذي كانت تبادله هيلاري كلينتون مع الإخوان المسلمين بالمغرب في شخص حزب العدالة والتنمية.. في هذا السياق تأتي تصريحات دونالد ترامب لتخلق واقعا جديدا عبر مفردات التحليل التالية: إن حديث ترامب عن محاربة الإرهاب في سوريا يعني محاربة «داعش» بالصفة والاسم، ويعني في الوقت نفسه تحييد الموقف من نظام الأسد، على خلاف الإدارة الأمريكية السابقة التي كانت ترى إسقاط الأسد في صدارة الأولويات. وكان بالإمكان أن تحقق ذلك بالقوة لولا بوتين. في نفس السياق فإن حديث ترامب عن التحالف مع هذا الأخير يعني الانتصار لأطروحة الكرملين التي تضع المسلحين (داعش وفتح الشام) في بلاد الشام في خانة الإرهاب، في حين كانت الإدارة الأمريكية تخرج فتح الشام (الاسم الجديد لجبهة النصرة) من دائرة الإرهاب. بل إنها تقر بمشروعية وجودها استنادا إلى الدعم غير المباشر التي تتلقاها تلك الجبهة من طرف بعض دول الخليج وغيرها.
لهذه المعطيات اعتبرنا أن الأصوليين بالعالم العربي اليوم إزاء كابوس رهيب. أولا: لأن السيناريو الذي يبشر به ترامب يعني أيضا علاقة جديدة مع روسيا الفدارلية وبموازاتها إمكانية حصر أردوغان في الزاوية بعد أن رواده حلم استعادة الخلافة الإسلامية إثر تولي محمد مرسي سدة الحكم في مصر. كما يعني كذلك، وإن كان بشكل غير مصرح به لحد الآن، إطلاق يد الدول الأخرى المواجهة تقليديا لـ «داعش» وفي مقدمتها مصر التي لا يزال الإرهابيون يستوطنون جزءا كبيرا من صحراء سيناء، ونفس الشيء في ليبيا والعراق...
ولكل ذلك معنى واحدا كبير متجسد في إمكانية إسقاط سيناريو الفوضى الخلاقة، ومعه إسقاط الرهان على الأصوليين ليحلوا محل القيادات التقليدية الحاكمة، وإبطال سلسلة الحوار الذي تفتحه السفارات الأمريكية مع الأصوليين كقوة سياسية كان يراها الأكثر تأهيلا، الحوار الذي كان لا يعني فقط تبادل وجهات النظر بين أطراف سياسية محتملة، لكن توجيه الأصوليين استراتيجيا، ودعمهم لوجيستيكيا وماديا ومعنويا وإعلاميا، ومدهم بالخبرات واستقبالهم للاستفادة من التداريب الموجهة لخدمة أهداف الإدارة الأمريكية...
الأصوليون سيصبحون وفق هذا السيناريو بلا أب روحي، أي بلا شرعية تمنحها إياهم التنبؤات الأمريكية. وهذا وحده كاف لتأجيج قلقهم وإدخالهم زمن الكوابيس الثقيلة. أما ما ستسفر عنه مقاربة ترامب الجديدة بخصوص مستقبل المنطقة فهو السؤال الذي ستجيب عنه التحولات والمنعطفات القادمة.
(تفاصيل أوفر تقرؤونها في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الآن" الموجود حاليا في جميع الأكشاك)