الأربعاء 27 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

عبد الله الفرياضي: مجزرة الحسيمة أو الهمجية المقيتة لدولة الرعايا

عبد الله الفرياضي: مجزرة الحسيمة أو الهمجية المقيتة لدولة الرعايا

رسائل كثيرة ومحزنة بل ومثيرة للحنق والغضب تلك التي حملتها مجزرة الحسيمة في أحشائها. فلو افترضنا جدلا - وهو افتراض مردود على أصحابه كما سنوضح بعد قليل - أن ما وقع في الحسيمة ليس سوى قيام الدولة بواجبها في تحرير الملك العمومي ووضع حد لحالة الفوضى التي تعيشها المدينة، فما معنى أن يتم اللجوء إلى شاحنة لنقل الأزبال كوسيلة لمصادرة وتجميع بضائع الباعة التي يقتاتون منها ويعيلون منها عائلات بأكملها في هذا الوطن المكلوم؟ وما معنى أن يصدر مسؤول أمني عبارة (اطحن مو) الوحشية والهمجية في حق مواطن أعزل؟ أليس من الواجب عليه أن يضع في يديه الأصفاد ويحيله على القضاء لو افترضنا مرة أخرى أنه قد خرق القوانين؟ أسئلة من بين أخرى تسائل طبيعة الدولة التي وقعت فيها هذا الجريمة، أهي دولة المواطنة (دولة الحق والقانون والمؤسسات)؟ أم دولة الرعايا (دولة تحالف المصالح واللوبيات)؟ لمحاولة فهم طبيعة هذه الدولة لا بأس في أن نعود إلى مساءلة النازلة.

ما الذي وقع بالضبط؟

محسن فكري، شاب طموح آمن كغيره من المغاربة بأكذوبة الإصلاح في ظل الاستقرار. آمن بأن عليه أن يساهم في الانتقال الديمقراطي السلمي بالمملكة الشريفة، فاختار أن لا يطالب الدولة بوظيفة في القطاع العمومي، مفضلا كسب قوت يومه من عرق جبينه من خلال الاشتغال كبائع للسمك.

رضي محسن بوضعه الاجتماعي وكله أمل وثقة في أنه يساهم في مسيرة الإصلاح في ظل الاستقرار. غير أن الدولة، "دولة الرعايا" حيث يعيش وحيث تتحول "أجهزة الأمن" إلى "أجهزة قمعية"، كان لديها رأي آخر. فمن فرط اعتقادها بأن ما آمن به محسن وغيره من المغاربة ليس سوى وهما سوقته لهم هي نفسها، أمرت أجهزتها القمعية أن تتحرك بكل - ثقة مقيتة - في النفس لمصادرة سلعته وأغراضه ووضعها في شاحنة لنقل الأزبال.

الشاب الحسيمي المغربي محسن فكري، اعتقد أنه في "دولة المواطنة" التي ساهم في تشكلها سلميا عبر تنازلات اجتماعية وأمنية، واعتقد أن ما قامت به آلة القمع مجرد تجاوز من التجاوزات المرتكبة من طرف هذا المسؤول أو ذاك دون أن تكون تجاوزات ممنهجة ومستندة على خلفية فكرية أو إديولوجية دولوية قمعية، فأراد أن يعيد الأمور إلى نصابها عبر القفز إلى بطن شاحنة الأزبال ليستعيد بضاعته ومعها كرامته الإنسانية. لكن... ويا ليت لفظة على شاكلة "لكن" لم يجد بها قاموس لغة من لغات البشر... آلة القمع ستصدر حينها حكمها المستمد من إيديولوجيتها الدولوية، حكم يكشف عن همجية مقيتة تأسست عليها إديولوجية دولة الرعايا حين أمر المسؤول القمعي سائق الشاحنة بتشغيل زر تدوير النفايات قائلا (اطحن مو) ! فكانت المجزرة.

هذه دولتنا الهمجية

إن جريمة الحسيمة أو بالأحرى مجزرتها الرهيبة، تسائل مرة أخرى طبيعة علاقة السلطة وأجهزتها بالمواطنين والقانون معا. فبعد ما يربو على عقد من الزمن، يتضح جلبا أن المفهوم الجديد للسلطة ما يزال مجرد حبر على ورق. فالمفهوم الجديد للسلطة الذي بشر به الملك، بوصفه رئيسا للدولة، يفيد انتقال المغرب من دولة الرعايا إلى دولة الحق والقانون، انتقال من نموذج الدولة التقليدية السلطوية إلى نموذج الدولة العصرية الحداثية. لكنه للأسف انتقال على مستوى الخطاب فحسب. إنه انتقال معاق يدفعنا إلى التساؤل: متى يصبح المغاربة مواطنين إذن؟ فحين يتصرف مسؤولوا الدولة بتلك الطريقة ويتحدث رجل مسؤول بتلك اللغة التي نقلت عنه، فهذا يعني أن السلطة تتصرف وكأن لا سلطة فوقها. والنتيجة ستكون مفارقة غير مقبولة، إذ كيف لنا أن نطالب الناس بالرضوخ لسلطة القانون في حين أن السلطة نفسها لا تخاف القانون وتتجاوزه؟

أسئلة وفضائح

الفضيحة الكبرى، لأن الفضائح تأبى إلا أن تتوالى، هي أن تخرج الجهات المعنية فتقول: لقد تمت إقالة مندوب الصيد البحري! فما دخله في القضية؟ هل هو الذي قتل؟ ولنفرض جدلا مسؤوليته في ما وقع، هل يعني أن الإقالة هي الحل؟ ألا تعني الإقالة ذاتها تفعيلا لمبدإ الافلات من العقاب؟

أما بلاغ وزارة الداخلية، كما عادتها دوما، فقال أنها فتحت تحقيقا. لكن قبل أن ننتظر مخرجات هذا التحقيق الموعود، أليس حريا بوزير الداخلية أن يجيب الشعب المغربي عن الأسئلة التالية:

أين وصل التحقيق في فيضانات كلميم؟

أين وصل التحقيق في فاجعة إحراق حافلة طانطان؟

أين وصل التحقيق في أحداث السبت الأسود بسيدي افني؟

أين وصل التحقيق في ملف البنك العقاري والسياحي؟

أين وصل التحقيق في قضية مي فتيحة؟

أين وصل التحقيق في ملف المجرم دانيال كالفان؟

أين وصل التحقيق في ملف تعنيف الأساتذة المتدربين؟

أين وصل وأين وأين وصل...بل إلى أين تريدون أنتم أن تصلوا بهذا الوطن المكلوم؟

أستغرب من بعضهم حين يتوسل المغاربة أن يظلوا هادئين، ومنطقيين، ويلعنوا من سموهم موقظي "الفتنة النائمة" ! كأنهم تناسوا أن الفتنة لا تنام في وطن يطلب مواطنوه قطعة خبز مبللة بعرق مالح ولا يتركون لحال سبيلهم. لمثل هؤلاء يتوجب علينا أن نقول أن وطنا يلقى فيه المواطنون حتفهم في شاحنات النفايات مقتولين بأوامر همجية؛ لا يحق لأحد فيه أن يزايد علينا بالإصلاح والاستقرار.