التواضع في العمل السياسي قيمة ايجابية دون شك، متى كان يعني الالتزام بشروط الواقعية التي توفر النجاعة للممارسة السياسية في سياق عام وموضوعي محدد. غير ان هذا التواضع المعلن يتحول الى نوع من اللامسؤولية الخطيرة، خاصة عندما يقترن بعدم اخذ معطيات الواقع بعين الاعتبار في مستويات محورية منه، هي التي تحدد طبيعة تموقع مختلف القوى والتنظيمات السياسية داخل هيكلة المشهد السياسي. ذلك ان الهوة التي تفصل بين محددات التموقع وبين الوزن الفعلي على الساحة السياسية، لهذه القوة او تلك، قد تنتهي، ما لم يتم التعامل معها بالجدية التي يقتضيها الموقف، الى الإصابة بنوع من انفصام الشخصية السياسية، تختلط على من أصيب به المواقع ومستوياتها، فيستدعي موقعا عندما يكون واقع الجدل السياسي يهم موقعا آخر، لتبرير ضعف هنا او فشل هناك، او حتى ما يعتبره نجاحه الأساسي، في الوقت الذي ينظر اليه مجمل الفاعلين السياسيين انه موقع الفشل الحقيقي.
ولقد رأينا خلال الاستحقاق الانتخابي الأخير في بلادنا، نماذج من هذه المعضلة، يمكن رصدها في تفكير وسلوك عدد من القوى السياسية، كبيرها وصغيرها معا، ان صح لنا التمييز بينها بهذين المعيارين الكميين والقابلين للتغير، نظريا على الأقل، عند كل استحقاق انتخابي تعرفه البلاد في المستقبل، على اعتبار ان جماهيرية اي قوة من القوى، رغم بعض المؤشرات الأساسية عليها، تظل من متغيرات الحياة السياسية. ولعل أهم عامل محدد لهذه المسألة هو طبيعة سلوك الناخب. وهي مرتبطة بعوامل كثيرة منها موقف مسبق ومنخرط بشكل ما في الأوساط المؤيدة لقوة من القوى لأسباب ايديولوجية او سياسية. ومنها طبيعة تقييم الناخب لأداء الحزب الذي كان قد سانده في استحقاق سابق ايجابا او سلبا. وهذا ما يفسر التغيرات التي تطرأ على تراتبية القوى السياسية داخل المشهد السياسي من استحقاق انتخابي الى آخر.
وإذا كان مفهوما تماماً لدى كل قوة من القوى السياسية المتنافسة حول من سيكسب دعم أوسع شرائح المجتمع الممكنة، التحرك على أساس ان تصورها الفكري ورؤيتها السياسية وبرنامجها العملي هو الذي يجسد طموح وتطلع الشعب الى العيش الكريم والتقدم الى غير ذلك من الشعارات، المتشابهة في الواقع، فان ما يدعو الى التساؤل العميق والاستغراب الشديد هو لجوء بعض تلك القوى الى أساليب، في الدفاع عن كل ذلك، اقل ما يقال فيها انها منفصلة عن الواقع الفعلي، دون وعي، او انها تتعمد القفز على الوقائع والمعطيات الملموسة التي من شأنها اضعاف حجتها في كل جدل فكري او سياسي حول طبيعة نتائج هذا الاستحقاق او ذاك.
وإذا كان ضروريا التأكيد على عدة عوامل في تقييم السلوك الانتخابي، وفي النظر الى نتائج الاقتراع في الانتخابات التشريعية الأخيرة، فإن محاولة حصر هذا التقويم في عامل وحيد يدل على تهرب حقيقي من مساءلة العملية برمتها، اما بحثا عن ارضاء الذات الحزبية ودغدغة عواطف الاعضاء والمناصرين، او البحث عن مشاجب مختلفة تعلق عليها كل السلبيات هروبا من المساءلة الموضوعية وفتح الباب امام امكان القيام باي نوع من انواع النقد الذاتي بغاية تطوير الممارسة التي دون التعرف على حقائقها الملموسة يستحيل حتى الادعاء ان هناك ارادة سياسية فعلية في القيام بالعمل التطويري.
وفي هذا السياق يمكن الحديث عن طبيعة الحملة الانتخابية التي قامت بها مختلف القوى والبرنامج السياسي الذي دافعت عنه امام الناخب المغربي من حيث سلامة ونزاهة الاساليب المعتمدة في الحملة الانتخابية من جهة، ومن حيث قوة منطق وقدرة شعارات البرنامج الانتخابي على التعبئة من جهة أخرى. غير ان الفرق شاسع بين المستوى الأول والمستوى الثاني لجهة اختصاص الأول بالبعد المعنوي الاخلاقي العام ولكون الثاني مرتبطا بمقتضيات الممارسة السياسية ومدى فهم الأحزاب للمزاج الشعبي وتطلعات المواطنين وقدرتها على تكييف شعاراتها الانتخابية مع الانتظارات الحقيقية للناخب. او بكلمة اخرى، ان قياس منتوج العامل الأول يظل مرتبطا بأمور معنوية في الوقت الراهن على الأقل، لأنها يمكن ان تكون ذات مردودية انتخابية على المدى البعيد بطبيعة الحال. بينما يقاس منتوج الثاني بطبيعة تجاوب أوسع فئات الشعب مع البرنامج السياسي وهو ما ترجم عمليا في عدد الأصوات التي نالها الحزب وعدد المقاعد التي كانت نصيبه من الاستحقاق الانتخابي.
وهنا ليس سياسيا في شيء محاولة القفز من عملية احصاء عدد المقاعد المحصل عليها الى احصاء عدد الأصوات التي نالها هذا الحزب او ذاك. ذلك ان التأثير الفعلي للحزب السياسي في تدبير الشأن العام من موقع الحكومة او موقع المعارضة يقوم على عدد المقاعد وليس على عدد الأصوات المحصل عليها. اذا انطلقنا من ان التأثير يكون أساسا من داخل المؤسسات المنتخبة وليس خارجها.
صحيح انه بإمكان الحزب السياسي القيام بعمل احصائي للأصوات التي حصل عليها لمعرفة الأوساط التي كان فيها لخطابه السياسي تأثير فعلي. وهو بهذا المعنى يدخل في نطاق تكوين صورة عامة حول وزنه لاعتماد خلاصات التجربة في الاستحقاقات المقبلة، او محاولة بناء جسور من التواصل، وربما العمل التنظيمي، مع ما يمكن التعرف عليه من كتلته الناخبة، غير ان الدخول في عقد مقارنات مع احزاب اخرى، على هذه القاعدة، ليس مجديا. اللهم اذا كان الهدف منه إقناع الذات بأن ما تم القيام به هو المثال الذي يحتذى وان جماهيرية الحزب تتجاوز جماهيرية احزاب احرزت مقاعد لا يستهان بها في الاستحقاق الانتخابي. وهذا أمر آخر تماماً لست ادري الى اي حد هو مفيد في التعرف على الخريطة السياسية في البلاد ما دامت المقاييس التي يتم اعتمادها متباينة الى هذا الحد.
وقد أبان هذا الاستحقاق الانتخابي أيضاً عن خلل في التقييم العام لطبيعة المشاركين فيه ونوعية سلوكهم الانتخابي من حيث تفضيلهم لأحزاب دون غيرها. ويبدو ان جوهر هذا الخلل هو محاولة إيحاء البعض بأن من اختاروا الحزب الذي يقوده او يساهم في تسيير شؤونه هم الناخبون الحقيقيون الواعون لطبيعة رهانات المرحلة الراهنة ويعول عليهم بالتالي، لرفع تحديات المرحلة بمختلف اشكالها ومستوياتها. بينما الناخبون الذين اختاروا الأحزاب المنافسة خلال هذا الاستحقاق لا يرقون الى المستوى المطلوب سواء لكون وعيهم قاصرا عن التمييز بين الأحزاب وبرامجها او لكونهم خضعوا لإغراءات المال او كانوا ضحية لهذه القوة او تلك. اي انهم ضلوا الطريق تماماً وصوتوا على من ليسوا في مستوى تمثيل مصالحهم الحقيقية او هم أساس البلاء الاقتصادي والاجتماعي الذي يشكون منه ويعبرون عنه بمختلف الأشكال بما في ذلك من خلال المظاهرات التي ينظمونها لمواجهة هذا القرار او ذاك.
وبطبيعة الحال، فإن هذا النوع من التقييم متهافت في منطقه واساس محاكمته للواقع لأنه ليس مبنيا على اي دراسات ميدانية تحدد طبيعة الكتل الانتخابية المختلفة بل يقوم على مصادرة ذاتية يتم تقديمها كما لو كانت التجسيد الفعلي للتحليل الملموس. وليس خافيا على أحد ان مثل هذا المنطق هو الذي أدى في نهاية الامر الى اطلاق الكلام على عواهنه بخصوص من يمثل حقيقة الشعب المغربي ومن هو مفروض على هذا الشعب. كما انه يفتح المجال امام كل القوى للحديث عن انتصاراتها الباهرة رغم ما تتم معاينته من نتائجها المتواضعة الى ابعد الحدود على مستوى التمثيل السياسي.
انطلاقا من هذه الملاحظات، يمكن القول ان الاعتراف بالواقع من حيث الوزن السياسي للحزب هو عنوان التواضع الحقيقي الذي يفتح الباب واسعا امام تطوير الممارسة السياسية، في حين ان تجاهل الوقائع القاطعة في وضوحها للالتصاق بما ليس مطروحا في الموازين أساسا، يشكل عائقا حقيقيا امام التطور السياسي في بلادنا. ان الاستحقاق هو استحقاق سياسي برنامجي وينبغي مقاربته على هذا الأساس ولو كان استحقاقا نظريا وأيديولوجيا لكان مجاله مختلفا تماماً ولكانت مفرداته مباينة لمفردات الاستحقاقات الانتخابية.
فعلينا إذن ان نختار بين موقف التواضع السياسي او اللامسؤولية في مقاربة قضايا الواقع؟ والاختيار المنتج للمعنى واضح تماماً.
كتاب الرأي