الأربعاء 8 مايو 2024
كتاب الرأي

ميلود العضراوي‎:دمشق في ليلة دامسة..؟

ميلود العضراوي‎:دمشق في ليلة دامسة..؟ مسلود العضراوي‎
إلى دمشق الثقافة والصحافة والإبداع وحلم الحرية،
شهداء الحرف بسوريا إلى كل الشهداء والأيامى واليتامى والمهجرين
وقع الأحذية الخشنة في الدروب
الجندي المدجج بالسلاح حتى الأدنين بخوذته الحديدية التي تغطي كامل الرأس وصدريته الواقية من الرصاص، يخرج من المبنى بتؤدة وخطواته البطيئة المتأنية تنم على أنه في وضعية لا تبعث على القلق أو الخوف ، ذلك الخوف الذي يعتري عادة الجنود حين يدخلون مناطق لا يعرفونها جيدا ويتوجسون منها خيفة ويعتبرونها مصائد وفخاخ.
الجندي الفارع القامة ذي الشاربين الغاصين جدا إلى أسفل الذقن، يمشي بخطى وئيدة غير مبال بما يحدث من قصف متواصل حوله،عبوات ناسفة وبراميل متفجرة تهطل من السماء، وأشلاء تطايرت لتوها في كل مكان، أسر طالها القصف فبقيت في المنازل تحت رحمة الموت وأخرى في طوابير الهجرة تستعد للرحيل، الكل يمسك قلبه كي لا ينفجر. وآلية التصوير في يدي تقفقف من الرعشة وتنسخ المشهد على مضض.
يمشي الضابط بخطى وئيدة ويأمر بتجمع سريع لجنوده وعناصر أخرى غير منتظمة من الجيش تقف مذهولة أمام مبنى نصف مهدم. كان المبنى قبل قليل مقرا لقيادة فيلق من الجيش النظامي. يظهر بعض رجال الأمن الذين انضموا حديثا إلى ثوار الجيش الحر يتمايلون في مشية كسولة بقامات طويلة ممتلئة،ما زالوا بزيهم الرسمي ونياشينهم التي تبرق فوق معاطفهم الداكنة يمشون ببطء مستعملين هواتفهم الخلوية ...وأيديهم على مسدساتهم.
على الأسطح – تضيف الصورة المنقولة على الهواء – يصطف رتل آخر من الجنود يحملون بنادق رشاشة أفواهها مقلوبة إلى أعلى ينتظرون طرائد من فصيلة مختلفة، إنهم القناصة في تعبير حرب الشوارع التي تشنها قوات النظامية على المدنيين، شاهدناهم في تونس،كيف كانوا يصطادون المتظاهرين بمهارة،فيردون قتيلا كل من وقع عليه الاختيار.في القاهرةوالإسكندرية واسيوط،كانوا يفعلون ذلك أيضا....على مقربة من الجندي المدجج بالسلاح دراجة بمحرك أتت عليها النيران، وجثة رجل مكومة مثقبة بالرصاص،نصف محترقة ما تزال النيران تشتعل حولها. الجنود يتعاملون مع المشهد بمزيد من اللامبالاة والهدوء. تحترق الدراجة من الحجم الكبير بواسطة كتلة نارية ملتهبة جعلت تأكلها من وسطها حتى صارت هيكلا حديديا مفحما، وبعدها صار كل شيء هادئاوصامتا.
-حديث الصورة :
عندما خرجت الطلقات النارية المتلاحقة القادمة من أعلى، فرت أسراب من الحمام مذعورة مرتبكة وصارت هائمة تحلق في سماء دمشق المغبرة الكئيبة ، رأيتها تطير على علو منخفض لا تلوي على شيء ولا تدري أين تحط ، تلاحقها في الأفق شظايا قذائف وأتربة ودخان ، فلم يعد فضاء الجامع العمري في قلب دمشق[2]مكانا آمنا لها ولا للمصلين، بعد أن صار مسرحا للموت ومذبحة للمعتصمين ومرمى لنيران المدفعية الثقيلة والصواريخ، لم تعد الساحات الخضراء الجميلة بنافورات مائها الملون قبلة لنا ولا للحمام الداجن الذي أطعمناه بأيدينا ذات مرة في باحة المسجد ونحن نتلو تقاسيم من شعر أبي الجهم ونستظهر قصته المثيرة مع عبد الملك بن مروان حين كاد يقتله من أجل مديح كالهجاء.كانت أيضا حاضرة مواويل من ذكريات أندلسية مرت بالبال فعزفنا من موشحاتها ما جاء على لسان أو حال.لقد تغير كل شيء تقريالتاريخوحياةة التفت حولنا عجلة الزمان ودرجت بنا مدارج النسيان. لقد كنا كذبة في شفة التاريخ وحياة لم تكن تشبه شيئا قط، مرت من هنا واختفت في ضباب الأزمة وصرنا نتمنى أن يعود ذلك الزمن لدمشق وأهلها.
ذكريات الحزن تتلاحق والنكبات لا تكاد تنتهي،كأن الزمن الجميل لم يمر يوما أمامنا.ما يفصلنا عن موشحات أبي البقاء الرندي وقصائده التأبينية الحزينة هو نفس المسافة الفاصلة بين ما مر من الزمان وما لم يمر وكأننا غادرنا الأندلس دهورا بحالها وليست بضعة قرون تلاحقت ترقص في أفق الأيام كالسحاب العابر فوق أديم السماء،مآثر دمشق وبيوتها وطراز معمارها أعاد الأندلس إلى الذاكرة على الرغم من توالي النكبات الكثيرة.
في فلسطين انتهى الزمن الموعود بغربة قاسية وشتات تقادم عليه العهد ،نسيت الأجيال الصاعدة حزنها ونسينا حزننا أو نكاد، وأمل العودة كنسته الريح من وجنتي الشرق وغرق في أعاصير النهايات، وانتهى حلم رجوع الهاربين من الموت إلى الأحياء القديمة في مدن الساحل الفلسطيني وها قد عاد بن خلدون يقول إن التاريخ يعدكم بالمزيد في دورته الكونية؛ الهجرة الشامية تحول بين الهاربين وبيوتهم المحترقة بنيران الزعيم .أحياؤهم الدمشقية وبناياتها المهدمة تكرس هروبهم بمزيد من الشتات والتهجير والمدن البعيدة في الخريطة السورية تشهد ملحمة الموت والدمار، تخرج كل الطوابير المهمومة مساء وتلتقي لتشكل ممر الهجرة نحو الشمال.
لعنوان المقالة شبه كبير مع عنوان رواية الكاتب الجزائري الكبير والصديق العزيز واسيني الأعرج، لذا اعتذر عن كل تشابه غير مقصود في التسمية.
نسبة إلى عمر ابن عبد العزيز وهو ل الخليفة الأموي المشهور بعدله وهو من بنى المسجد العمري الذي درت جزءا منه قوات النظام السوري بالمدفعية.