الخميس 28 مارس 2024
كتاب الرأي

رشيد قنجاع: المقاطعة رسالة للفهم

رشيد قنجاع: المقاطعة رسالة للفهم رشيد قنجاع

عرف المغرب في السنتين الاخيرتين موجات من الاحتجاجات الاجتماعية، شكلت في كل تجلياتها مرحلة جديدة من الاحتجاج الشعبي من حيث المكان ومن حيث طبيعة المحتجين والشعار المطلبي.. فحراك الريف، وفي تسميته يحدد المكان، ومن المكان تحدد طبيعة المحتجين، نجده قد وضع مطالب بناء المستشفيات والجامعات وتوفير مناصب الشغل في صلب النقاش العمومي؛ وتلاه حراك زاكورة الذي حمل مطلب توفير الماء كضرورة آنية؛ ثم حراك أوطاط الحاج الذي كثف صوت ساكنة المدينة المطالب بتوفير الخدمات الصحية، وأخيرا حراك جرادة الذي ركز المطالب السابقة في مطلب عام يشمل كل المطالب السابقة التي رفعتها الحراكات السالفة الذكر، والمتمثل في "البديل الاقتصادي". هذه الاحتجاجات رسخت مرحلة جديدة، كما أسلفت الذكر، تميزت بالاستعمال المكثف للوسائط الاجتماعية بكل أنواعها، وبسلمية الاحتجاجات الذي كان هما مرهقا للمحتجين، أدى إلى تحقيق أشكال تنظيمية نوعية ابهرت الجميع.

اليوم انتقل الاحتجاج إلى مرحلة أخرى كذلك، وهي فريدة من نوعها شكلا ومضمونا في تاريخ الاحتجاج الشعبي بالمغرب، تجسدت في حملة المقاطعة لبعض المنتوجات عبر الفضاء الأزرق والوسائط الأخرى، وعلى رأسها الواتساب. وفي كل هذه الاحتجاجات، وبكل أنواعها وبآخر إبداعاتها، يحضر القدر الكبير من الغضب والإحباط والتذمر لدى فئات واسعة، إن لم أقل عامة من الشعب المغربي، وبالأخص الطبقتين المتوسطة والفقيرة، يكتنفه قلق متزايد بشأن الوظائف والرواتب وتوفير لقمة العيش، كل حسب موقعه الطبقي، ويختزله شعور عارم لديهم يتمثل في كونهم خارج دائرة اتخاد القرار الذي يتعلق بهم سياسيا واقتصاديا، وبالتالي حاولوا إبداع هذه الأشكال للإجابة عن سؤالهم المؤرق: كيف يكون صوت الشعب مسموعا؟

وفي كل هذه الاحتجاجات لعبت الطبقة المتوسطة دورا محوريا في صياغة أشكاله ومطالبه والتأطير له، نظريا وعمليا، والعمل على تعميم النقاش حول محتواه في مواقع تواجدها الاجتماعي افتراضيا من خلال الوسائط الاجتماعية، أو واقعيا من خلال تواجدها الوظيفي في اماكن العمل وفي المقاهي والمنتديات والحلقات الاجتماعية الأخرى، من الأسرة إلى الجيران والحي.. وهي بذلك تحاول الدفاع عن موقعها الذي صار مهددا بفعل تداعيات السياسات الاقتصادية الليبرالية المتوحشة التي قضت على أحلامها وتطلعاتها في الرقي الاجتماعي، أو ما يطلق عليه الانتقال التصاعدي داخل المنظومة المجتمعية، مما جعلهم في وضعية أقرب إلى الطبقة الفقيرة.

كل هذا الوضع المتأزم مرده إلى الرأسمالية المتوحشة أو رأسمالية أقلية الأقلية، التي سبق للقوى الحية في البلاد أن نبهت على خطورتها منذ 1984، أي مند تبني سياسة التقويم الهيكلي، وما تبعتها من سياسات للخوصصة، وبعدها سياسات تحرير الأسعار والإعفاء الضريبي للشركات والمقاولات على حساب دافعي الضرائب من المواطنين، إلى لحظة ترسيخ مفهوم غامض ولكنه ممنهج، وهو اقتصاد السوق الحر بقواعده المتغيرة حسب المصالح والظروف المتمثلة في القواعد الخمس: الملكية المطلقة، الاحتكار، العقود، الإفلاس والتنفيذ، وهي قواعد لا تأتي من الطبيعة وإنما تعكس مصالح الاقوى. حيث أن الاختباء وراء شعار السوق الحر أتبث بالملموس أن السيولة المالية المتسارعة واليومية تخرج من جيوب المواطنين العاديين، وتتدفق إلى الطبقة المستفيدة وأقليتها كذلك في شكل أرباح لمقاولاتها الضخمة وأجور مديريها التنفيذيين وإلى أصحاب الأسهم.

وأثناء عملية التدفق وما تنتجه من تراكم للثروة، والثروة بدون سلطة سياسية هي ثروة مفقودة، تمت عملية القفز إلى دائرة السلطة السياسية قصد التحكم في كل الجزئيات حفاظا على الثروة ورغبة في المزيد من التراكم وقصد المزيد من القدرة على التأثير والتحكم في قواعد اللعبة. وهو ما صار باديا للعيان، ومنذ سنوات، من خلال الترخيص لرجال الأعمال والأثرياء من التوغل في المشهد السياسي عبر التحكم في الأحزاب السياسية والسيطرة عليها من خلال إقصاء الفاعل السياسي الحزبي، وتبديله بمول الشكارة، حتى يتحول الحزب وموقعه السياسي إلى منطلق للدفاع عن مصالح هذه الاقلية عبر بوابات السلطة التنفيذية  (وزراء يدافعون عن مصالح الشركات بدل الدفاع عن مصالح الفقراء)، والتشريعية (الباطرونا، برلمانيون أثرياء)، والقضائية (محاكمة النقابيين والمحتجين).

أمام هذا الوضع المتأزم، بدأ الغضب والقلق والتذمر يسفر عن قواعد مجتمعية جديدة وخطيرة، فالمجتمع لم يعد يعنيه التموقع الفكري والسياسي، يمين يسار، بل بدأ يرسخ مفاهيم جديدة ومنطلقات للتفكير جديدة، انحصرت في توجهين بارزين، أكيد أن تداعيات ترسيخهما ستكون لها عواقب فظيعة، وهما: من مع المؤسسات ومن ضد المؤسسات .

إن الخلاصة التي يمكن الخروج منها تتعلق بأن الديمقراطية التي تروج الآن هي ديمقراطية تناسب، عمليا وتكتيكيا واستراتيجيا، هذه الاقلية المتنفذة والمستفيدة، وهي آلية للمزيد من تراكم الثروة، وبالتالي أعتقد أن إعادة النظر في ميكانيزمات نظامنا الاقتصادي وتوجيهه نحو مبدأ العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية والدولة الاجتماعية التي أساسها المواطنة الحقة، التي تعني ليس فقط الانتخاب ودفع الضرائب، بل تعني المشاركة الحقيقية في اتخاذ القرار وفي الاحتجاج، إذا كان الاحتجاج ضروريا.

أكيد إذا وضعت نفسك في حالة الاختيار بين العيش في فينيزويلا، التي يتزعمها شيوعي مناضل، والدانمارك أو النرويج الرأسماليتين، فإنك ستختار الأخيرتين.