الأحد 19 مايو 2024
سياسة

عبد الرحمن غانمي: تاريخ المغرب تاريخ اليسار وما يجري هو محاولة لفصل اليسار عن هذا المسار

 
 
عبد الرحمن غانمي: تاريخ المغرب تاريخ اليسار وما يجري هو محاولة لفصل اليسار عن هذا المسار

في إطار مواصلة "أنفاس بريس" قراءة المشهد السياسي المغربي الحالي مع فعاليات مغربية من كل ألوان الطيف ومناقشة تجليات هذا المشهد في أفق الانتخابات التشريعية لـ 7 أكتوبر، اتصلت بالناقد عبد الرحمن غانمي (الأستاذ الجامعي بجامعة السلطان مولاي سليمان ببني ملال) وأجرت معه الحوار التالي الذي تطرق فيه إلى دور اليسار في المراحل السابقة واستشراف هذا الدور في المرحلة الراهنة والمستقبل، ومدى تجذره في المجتمع المغربي، وكيف يمكنه استعادة توهجه تجاه الأحزاب الليبرالية المتوحشة وخطابها السياسي المتناقض بين الشعارات والممارسة.

+ كيف تقرأ المشهد السياسي المغربي الحالي على ضوء المقولة المتداولة التي توزعه بين القطبية الحزبية والأصولية الدينية والأصولية المخزنية؟

- المقولة المتداولة التي ذكرت ليست مسلمة لا فكريا ولا منهجيا وهو خطاب سياسي فيه كثير من الثغرات والاختلالات الذي يراد ترويجه، ذلك لأنه لا يمكننا التحدث عن منظومة إسلامية، وهي أصلا ليست بإسلامية! فنحن اليوم أمام أحزاب ليبرالية متوحشة تختفي وراء غطاء يطغى عليه الجانب الإيديولوجي أكثر منه الجانب العملي. وإذا أخذنا الحزب الحاكم "البيجيدي"، مثلا، فهو في العمق حزب ليبرالي رجعي بالنظر إلى اختياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية وتوجهاته التي تبلورت من خلال مدة حكمه.. كما أن الخطاب السياسي اليوم يتميز من جهة أخرى بالتناقض الصريح والواضح بين الممارسة والشعارات المرفوعة.. وبالتالي فكل هذا يدعونا في الحقيقة إلى إعادة قراءة الامور وعدم التسليم بما هو جاهز وبما يتم الترويج له، والذي ليس سوى من قبيل الوهم الذي لا وجود له. هكذا إذن يظهر المشهد بصفة عامة: تشتت وتمزق سياسي بين أطراف متعددة، بينما تظل أغلبية فئات المجتمع المغربي غائبة أو مغيبة عما يقع ويحدث.. وأعتقد أن المفهوم العلمي الذي يمكن أن نصف به هذا الوضع هو "الشطط السياسي".

+ وهل يمكن الحديث عن صحوة اليسار، وهل أصبح بمستطاعه أن يتموقع ويجد مكانته في ظل هذا الوضع؟

- صحيح أنه بعد سنوات من الغفوة لدى عدة فئات التي عاشت نوعا من الضيم والغيظ تجاه ما يجري في بلادنا وما خلفته انتكاسة ما اصطلح عليه حكومة التناوب التوافقي وما تلاحق من الأحداث العربية الكبرى التي تحولت إلى نكسة فيما بعد، وجاءت التعديلات الدستورية التي وقعت في المغرب وكذلك الحكومة ألجديدة، وهذا إن كان يعني شيئا فهو يعني أنه كان هنالك نوع من الفراغ السياسي وملأته أطراف معينة.. ولهذا فإن الاستشعار بدور اليسار اليوم هو شيء طبيعي. لكن في اعتقادي أن الحديث المرحلي عن هذا الدور وعن وضعية اليسار حاليا هو في "المستقبل" أكثر منه في "الراهن"، وهو في تجميع شتاته أولا، وبشكل أدق في محاولة رفع صوت اليسار بعد أن خفت وتراجع لمدة طويلة.. وهذا الاستشعار بطموح اليسار في المستقبل هو أمر ممكن، إذا استطاع أن يقوم بدوره التاريخي وغير الكثير من أساليبه في العمل والاشتغال.

+ ألا تعتقد أن هذا التغيير ينبغي أن يشمل حتى الخطاب لأنه من الانتقادات الموجهة لليسار هو خطابه النخبوي المتعالي الذي لا تتجاوب لغته مع لغة شعب اليسار؟

- لا اعتقد ذلك، فهنالك مسألة يجب توضيحها في هذا الصدد لأن ما يجري الآن هو محاولة عزل اليسار وفصله عن مساره في المغرب.. فتاريخ المغرب كان تاريخ اليسار.. والحقيقة أن المنظومة الأخرى الليبرالية المتوحشة، وحتى التيارات التي تسمى بالتيارات الإسلامية وهي (ما عندها مع الإسلام غير الخير والإحسان ) التي تملأ الساحة كانت مستقطبة من اليسار بمختلف تجلياته.. لكن الانكسار الذي عرفه اليسار، وأساسا تجربة حكومة ما يسمى التناوب التوافقي، أدى إلى نوع من الانتكاسة.. ويجب التذكير هنا أن اليسار كان متجذرا، ليس فقط انطلاقا من الشعارات التي يحمل كمنظومة فكرية، إنما انطلاقا من تجذره في المجتمع وارتباطه بالمجتمع، ويعني هذا أن ما فقده اليسار من هذا التوهج كان نتيجة الخيبات التي لاحقته.. وقد لاحظنا كيف ابتعدت عنه الطبقات المتوسطة، وكان موقفها بمثابة رد فعل عقابي. واليوم أصبح اليسار مدعوا أساسا أن يعود إلى الشعب المغربي ويعيد الارتباط به، وأن يعيش ويتحسس ما بجري داخل المجتمع.

+ ولكن ألا تعتقد أن هذا الدور جاء متأخرا على اعتبار أن الوسائط الاجتماعية الجديدة من وسائل التواصل الافتراضي كـ "الفيسبوك" وغيره حلت محل الأحزاب والنقابات التي تم تجاوزها وبات دورها اليوم محدودا وباهتا؟

- أرى أن هذا فيه نوع من الظلم تجاه تاريخ المغرب وتجاه الأحزاب والنقابات، لأننا نعلم أن كثيرا من المكاسب التي حصل عليها الشعب المغربيكانت بفضل النقابات والأحزاب، والتي ربما تغير حالها اليوم، ولكن هذا لا يعني أن الوسائط الجديدة يمكن أن تشكل بديلا عن المنظمات الأساسية الحزبية، فرغم التحولات الجديدة فمجتمع الفيسبوك لا يضم بالضرورة الجميع، كما أن صوته لا يصل إلى كل فئات الشعب المغربي الذي مازالت فيه مجالات وفئات لا علافة لها بالعالم الأزرق الافتراضي.. وأعتقد أن ما سميته قبل قليل "بالشطط السياسي" هو ناتج لما أصبحنا عليه اليوم أمام خلطة أو عجين غريب أدى إلى نفور وتنفير الناس وتشكيكهم في كثير من المنظمات، رغم أن هذه الأخيرة، من نقابات وأحزاب، قدمت تضحيات كثيرة.. ما نلاحظه اليوم، للأسف، هو ما يتم الإجهاز عليه من قبل هذه الحكومة الطاغية الظالمة بخطابها الأيديولوجي التي تدعي المظلومية وقد أجهزت على المكتسبات التي تحققت بفضل تلك التضحيات وفي أحداث 84 و79 وغيرها.. إن الذين يتحركون في الساحة اليوم ويملؤون الفراغ السياسي من التيارات الاصولية وغيرها، يتحدثون وكأن التاريخ يبدأ انطلاقا منهم، والحال أنهم هم أول من استفادوا من هذا التاريخ، الذي لولاه ما كان يوجد هذا الهامش من الحرية ومن الديمقراطية، ولا يتورعون مع ذلك من الإجهاز والتشكيك في كل ما يضايقهم ويمكن أن يشكل بديلا لهم، وهم بهذا التشكيك لهم غرض إيديولوجي واحد هو محو تاريخ ومرحلة زاهية بتراكمها وإنجازاتها ورجالاتها، ويبحثون عن تقديم أنفسهم كبديل وكأن التاريخ المغربي يبدأ من الصفر، في حين أن تضحيات الشعب المغربي في تلك المرحلة كانت جلية ولها مسار طويل، وكان قطبها الأساسي فيها هو هذه النقابات وهذه الأحزاب بغض النظر عما يجري حاليا، دون أن ننسى بطبيعة الحال تسجيل أن هذه الحكومة مررت كثيرا من القرارات كانت تروم بها التضييق والقمع بنمط جديد.. ففي فترة سابقة كان هذا التضييق والقمع يتمان بوسائل مباشرة كالاعتقال، أما اليوم فهنالك قمع بنمط جديد في إطار ما أسميه "الشطط السياسي" ويتم عبر وسائل مختلفة، إذ كيف يتم مثلا التنصيص دستوريا على حق الإضراب، ولكن في الواقع يواجه الإضراب بالاقتطاعات؟! فهذا نوع من الحيف وفيه كتم للأصوات المعارضة.

+ كيف إذن في نظرك يمكن لليسار أن يستثمر بدوره هذه الهوامش من الحرية والديمقراطية التي تعرفها هذه المرحلة؟

- يكون ذلك أولا بالانخراط والتواصل مع المجتمع المغربي بمختلف فئاته، فلا ينبغي لليسار أن يبقى معزولا.. وثانيا إعادة المصداقية للعمل السياسي والثقة في العمل والممارسة السياسية، وهذه الأخيرة لا تتم إلا من خلال تقديم نماذج وبدائل جديدة، وهذا الدور والوظيفة لا يمكن أن يتحقق أيضا إلا من خلال الوعي بالمرحلة، لأن اليسار منوط به الآن مسؤوليات جديدة يجب عليه أن يستشعرها وأن يكون فيها موحدا وليس مشتتا وأن يعمل على لحم كل أطرافه في أفق مشروع مجتمعي جديد ومغاير، وأن ينبذ كذلك كل هذه الاختيارات السياسية التي أجهزت على الكثير من المكتسبات التي ناضل من أجلها الشعب المغربي.