الخميس 28 مارس 2024
فن وثقافة

قالها لي زفزاف.. وأثبتت السنين حكمة الرجل المُعلم

قالها لي زفزاف.. وأثبتت السنين حكمة الرجل المُعلم

كان لقائي الأول بالقاص والروائي الراحل محمد زفزاف شهر دجنبر من عام 1994، حين كنت أشتغل بالموازاة مع دراستي الجامعية بإحدى المجلات التي كانت تشرف على إدارتها الفقيدة الإعلامية نادية البرادلي. ولا عجب في تأريخي لهذا الموعد، ففيه تحقق الطموح الحالم الذي كنت قبيل ذلك بقليل أعتبره مجرد حلم يقظة.

كانت الصفحة الأخيرة من مجلة "المنبر الليبرالي" وقتها مخصصة لإبداعات هذا الرجل، ومن إحداها التي حملت عنوان "تلك القبيحة النائمة في الغابة" اتخذت فرصة تسترت وراءها للإقتراب أكثر منه، خصوصا وأن أي خجل أو تردد من الراجح أن يكتنفك بصفة مسبقة يتبدد جراء معاينتك لابتسامته العفوية التي لا تستشيره في تطعيم قسمات وجهه.

باشرته في إحدى زياراته القليلة لمقر المجلة في منطقة "بوركون" في الدار البيضاء بالقول: "حاولت في أكثر من قراءة لقصتك الوقوف على القصد المستهدف، لكن كان العجز مآلي". فأجاب: "فهمتَ الأهم لما أدركت أنك لم تفهم، وهذا قمة مسعاي"، مردفا ويده تتلمس شعيرات لحيته الثورية: "إن القلم الذي يوصل الخطاب لابد أن يمتزج في مداده الواضح والمرموز، أملا في فتح المجال أمام القارئ ليسرح بفكره نحو تسويغ الموضوع حسب وضعه الشخصي، وفي ذلك اكتساب لأكبر عدد من القراء". بعد ذلك استدار وكأنه يبحث عن شيء فقده للتو، ثم سألني فجأة عن سني ومستواي الدراسي، قبل أن يستفسر، وهذا هو اللافت، عن عمر والدي، فأجبته على مضض وكل ما بداخلي يتساءل عن الخلفية. غير أن أديبنا قرأ أفكاري وربما لغة ملامحي حينما رد على الفور "لقد أخطأت في سن والدك يا إبني"، وكم كانت رائعة كلمة "إبني" وهي تُلفظ من فمه. لأسأل: "كيف يا أستاذ؟"، "والدك أكبر من السن الذي ذكرته بـ 13 سنة". سبحان الله، هذا الرجل الذي يفضل كل متطلع للمعرفة مقابلته لنصف ساعة على قراءة 20 صحيفة يومية، له صلة بأبي، والأدهى أنه يعلم عنه ما أجهله؟"..

وبقدر هذا الإستغراب الذي تملكني، كان الجواب بالنفي كما غلب على ظني، بَيد أن كل ما في الأمر، كما أعلمني زفزاف، أنه كلما انتقل الشاب من 15 سنة إلى العشرين ازداد سن والده بـ 13 سنة. صافحني الكاتب المُعلم قائلا بالإبتسام "شكرا، مع السلامة يا إبني". حاولت أن أفكر في كلمات أقولها لأداري بها دهشتي، لكن ذهني فرغ ساعتها من كل الأفكار، ولم أملك إلا أن أمد يدي إليه مودعا.

بعد مرور نحو 20 سنة على هذا الحوار المقتضب، صادف وأن كنت رفقة أحد الأصدقاء حين التقى هو الآخر بزميل له لم يره منذ سنين. وعقب انصراف الأخير، لم ينتظر مرافقي أكثر من ثوان قليلة ليقول لي وحواجبه مرتفعة استغرابا "شحال تبدل عليَّ هاد الصديق، شعره بسرعة طاح، واللي باقي منو بياض"، ثم زاد ملاحظا "حتى طريقة تفكيرو تغيرت، مابقاش ذلك الإنسان المرح اللي عرفت على بال، وبحال إلى سبقاتو الحضارة". لم أقاوم شيئا ما بخاطري أراد التعليق، وقاطعت صديقي متسائلا: "هل له أبناء؟ وكم سن أكبرهم؟". أجاب: "نعم، والبكر بعمر 17 سنة". حينها فهمت ما يجري في كواليس ذلك الرجل، وقلت محدثا نفسي "قالها لي زفزاف".