من يصدق أن الجنيرال حميدو العنيكري (المفتش العام للقوات المساعدة) الصارم القسمات "القاسي القلب" كما تسوق صورته وسائل الإعلام، هو غير ذلك على الإطلاق، بل رجل طيب ومتسامح ويعطف على المستضعفين. كان أحمد بلالي الحلاق الذي جرب معدن الرجل طوال سنوات تردده على صالونه بشارع إبراهيم الروداني، غير مصدق بأن العنيكري صانع للقسوة إلى هذه الدرجة. قال مندهشا "ماذا تقول؟ أنت تقصد رجلا آخر وليس حميدو العنيكري الذي أعرفه حق المعرفة."
الحلاق في الروايات كان بارعا في نسج الحكايات، وحتى في الواقع خيال الحلاقين واسع جدا. يندر أن تجد حلاقا يبلع لسانه في حضرة زبونه، الحلاق غالبا رجل يحتكر الكلمة ويقفز من موضوع إلى موضوع. لكن حلاقي الوزراء ورجال الدولة الكبار ومسؤولي الأمن هم من طينة خاصة، ويمكن أن تعدهم على رؤوس الأصابع. فليس سهلا اللعب مع "رؤوس البلاد"، ليس سهلا أن "يطأطئ" اليوسفي أو البصري أو العنيكري أو الميداوي رؤوسهم لأحد. المفروض أن يكون لهذا الحلاق الذي كسب ثقتهم حظوة في المجتمع، والمفروض أيضا أن يكون فخورا بنفسه.
الحلاقون يصنعون بـ"رؤوس البلاد" ما يشاؤون، أسلحتهم حادة ومشحوذة بعناية: الشفرة المبراة والمقص المسنون والمشط. رؤوس تحت رحمتهم ليفعلوا بها ما يريدون. يمكن أن يتخيل الواحد منا أن رأس البصري - في زمن جبروته - كان يسلمها لأحمد بلالي، هذه الرأس التي كانت تتحكم في مصير الملايين من الشعب بين يديه. لم تكن أصابعه ترتجف، الحلاق الماهر لا تهزمه حتى أصلب الرؤوس. بلالي كان يزين رأس البصري وهو غارق في مجادلاته السياسية، وهو ماسك سماعة الهاتف، وهو في جميع حالاته المتعددة. رجل مهم كالبصري يقدر قيمة الوقت تمنى أن يحلق رأسه في دقيقة واقفا على قدميه، لكن بلالي كان رجل خبرة ويعرف أن الوقت سلاح ذو حدين، فالحلاق الحاذق هو الذي يضبط وقته على ساعته وليس على ساعة زبونه.
من أشهر صالونات الدار البيضاء: صالون أحمد بلالي بشارع إبراهيم الروداني، وصالون عبد الغني بشارع الزرقطوني، وصالون بالاس بشارع غاندي. شهرة هذه الصالونات اكتسبتها من ضيوف فوق العادة يترددون عليها: وزراء، عمال، رجال مخابرات، كتاب الدولة، رؤساء أمن، رجال أعمال... تقاسمت هذه الصالونات الشهرة وحظيت باحترام هذه الشخصيات ووفائها. لكن قبل ذلك كان لابد أن تلتزم الصالونات بدفتر تحملات، وأهم بنوده التخلص أولا من عادة الكلام المجاني، وكتمان السر ثانيا، وإتقان الحرفة ثالثا.
أهم شيء كشفت عنه زيارة هذه المواقع، هو الوجه الآخر لرجال الدولة... الوجه الإنساني الذي غيبته براغماتية السياسة. يتحول حتى أشد الرجال صلابة وقساوة إلى حملان، يتصرفون كعامة المواطنين: ينتظرون دورهم، يخالطون الناس، يتحدثون في أمور شتى في الخبز والجنس، يتخلصون من حرسهم، يضحكون، يدفعون أجورهم بسخاء.
اليوسفي اختار صالون عبد الغني، رجل كهل هادئ الطباع، صالونه عصري على الطراز الأوربي، يشغل معه أبناءه وزوجته. يوقف اليوسفي سيارته (الهوندا) أمام صالون عبد الغني، يدخل بشوشا، يلقي التحية على الحاضرين الذين ألفوا وجهه مع كثرة الزيارات.
لم يغير طباعه حتى بعد أن أصبح "حاكما"، مازال اليوسفي هو نفسه، يوقف (الهوندا)، يدخل بشوشا، يلقي التحية على الحاضرين ويوزع ابتساماته بقلب طافح بالتواضع.
أحمد بلالي يؤمن بأن الصمت من ذهب، رجل خبير وقديم في الحرفة، لطفه وبشاشته وشهرة اسمه على المستوى الدولي، جعل صالونه محط اهتمام كبار الشخصيات. كاد بلالي أن يكون الحلاق الخاص للملك الراحل الحسن الثاني لولا سوء الأقدار، هذا الرجل كم عالج مقصه من الرؤوس، أكبر رأس هي البصري الذي يفضل قصة خفيفة، رجل مرح، مستعجل... العنيكري لا يملك شعرا كثيفا، لا تستغرق حلاقته زمنا طويلا، لا ترتعش يداه، لا يخاف من العنيكري الذي يجلس بأدب ووقار مبتسما ومحييا من يجد من الزبناء في صالون بلالي. لائحة طويلة من المسؤولين حجرت السياسة وجوههم وقلوبهم، لكنهم يستردون طبعهم الإنساني لما يخلعون ثوب السياسة. صالون الحلاق عالم من الخيال، فضاء اجتماعي عجيب تتخلص داخله من كل القيود والبروتوكول وأوهام السلطة.. يشبه هذا المكان عيادة الطبيب النفسي، يطلب فيه من الزبون الاسترخاء وسماع الموسيقى وقراءة الجرائد والمجلات والبوح أحيانا بمشاكلك الخاصة.
صالون "بالاس" على غرار صالوني "بلالي" و"عبد الغني" محط جذب لكبار الشخصيات، لكنه ينفرد بضيافة كبار المسؤولين الأمنيين والمليونيرات. موقعه مميز، صالون عصري، يوظف شبابا من أمهر الحلاقين قضوا سنوات طويلة في هذا الصالون. وهذه قيمة إضافية للمحل، إذ ينفر رجال الدولة والمسؤولون الأمنيين من رب الصالون الذي يغير مستخدميه على رأس كل صباح، لذلك يحرص أرباب هذه الصالونات على الحفاظ على هذه الميزة.
يعج "بالاس" بالحركة وضيوفه يفدون على رأس كل ساعة، بعض رجال المخابرات (السامل وعبدون مثلا) يفضلون القدوم يوم الأحد، حفاظا على سرية مهامهم، فهواتفهم دائمة الاشتغال. اختار هذا الصالون عبد العزيز دادس والسكروحي ويونس الجمالي وسعيد بلا... قائمة طويلة من الشخصيات خلقت ألفة مع حلاقيها تثير الغرابة.
صالون الحلاق مستوطنة صغيرة، موقع نموذجي للجدل وتبادل الأفكار والمعلومات. لهذا الفضاء سحره الخاص وطقوسه المميزة، اسألوا وزراء بلالي عن سر هذا السحر... أو اسألوا اليوسفي الذي عقد رابطة دموية بالكاد مع صالون عبد الغني، حتى في أحلك أوضاعه الصحية كان لا يجد بديلا عن عبد الغني... أو اسألوا عمال وولاة صالون "بالاس" هل هم مسحورون بهذا المكان أم لا؟... ما هي هذه الأسرار التي نجحت في ترطيب القسوة وترويض الشراسة؟
الحلاق يملك مقدرة عجيبة على اختراق القلوب، رجل ساحر سلاحه هو المشط والمقص، لا يملك غير هذا السلاح. لكن سلاحه الخفي هو الصمت...
- من أرشيف أسبوعية "الوطن الآن"