من بين الجواسيس الأكثر شهرة في العالم، تعرفون جاسوس صاحبة الجلالة "جيمس بوند" القادم من خيال الروائي "إيان فليمينغ"، والذي تحول إلى بطل أفلام عديدة غنية عن التعريف تعاقبت على تجسيده أجيال ممثلين منالأكثر وسامة في تاريخ السينما.
هذا هو الخيال أما الواقع فهو مختلف نوعا ما، خصوصا فيما يتعلق بالوسامة وبالجرأة، لأن أغلبية الجواسيس الذين افتضح أمرهم لا يتوفرون على نصيب وافر من الوسامة بقدر ما يتوفرون على مهارة تقمص دور الإنسان العادي في أي مكان تواجدوا فيه، وعلى قدر كبير من الحيطة والحذر بدل حب المغامرة والتهور الملازمين لجواسيس السينما.
الحقيقة أن شخصيات الجواسيس الحقيقيين اختلفت من القرن العشرين إلى يومنا هذا فقط، حتى لا نعود إلى ما قبل التاريخ لأن هذه "المهنة" وجدت منذ وجود الإنسان، من علماء آثار إلى خبراء تقنيين ومستشارين استراتيجيين، ومن راقصات كاباريه إلى عالمات بيولوجيا وسبيرنيطيقا، مروراً بموظفين وموظفات عاديين بعيدين عن الشبهة.
مناسبة هذا الكلام هو خبر الاشتباه بتسميم جاسوس روسي سابق تحول إلى جاسوس لصاحبة الجلالة، ملكة إنجلترا، بعد تعرضه بمعية ابنته لمادة مجهولة. إذ أوردتْ صحيفة الغارديان هذا الأسبوع خبر العثور على "سيرغي سكريبال"، 66 سنة، ومعه ابنته، شابة في الثلاثينات من عمرها، بين الحياة والموت على مقعد عمومي في ساليسبوري. وقد اشتبهت الشرطة البريطانية في تعرضهما لمادة سامة غير معروفة. ومما استبعد فرضية "الهجوم الإرهابي" الذي أصبح بوليس العالم بأسره يضعها على رأس قائمة الاحتمالات كلما صادف اعتداءً يتضمن أكثر من شخص واحد في مكان عام، هو أن السيد "سكريبال" هو نفسه ضابط جهاز "الكاجيبي" السابق الذي استُبدِل سنة 2010 في إطار عملية تبادل جواسيس بقايا الحرب الباردة بين "الشرق والغرب"، حيث تمت مقايضة أربعة عملاء "ناشطين" روس للغرب بعشرة عملاء "نائمين" لروسيا في الولايات المتحدة الأمريكية. إضافة إلى ذلك، استحضر البوليس البريطاني حادثة اغتيال العميل الروسي الذي "قلب الفيستة"، بلندن في نوفمبر 2006، بعد لقائه المفترض بمستخدميه السابقين (الكاجيبي). وتبين أن المادة التي تسببت في قتله هي مادة "البولونيوم 210" المشعة، وقد دست له حسب استنتاجات الشرطة في كأس شاي. أكيد أن ولعه بأسلوب العيش الإنجليزي، وكذا تلقيه أجرته من جهاز مخابرات صاحبة الجلالة "ام آي 6"، كانا وراء حتفه.
من المنتظر أن يعرف ملف العميل "سيرجي" تطورات من قبيل التطورات العادية في مثل هذه الحالات، أي غضب بريطانيا واتهامات لفلاديمير بوتين بضلوعه في هذه العملية. ومن المحتمل أن يطوى الملف كالعادة لأن الحرب "السفلية" للمخابرات كالغواصة لا تطفو على السطح إلا عند الضرورة القصوى. المهم هو أن نستخلص منها ما يجب استخلاصه: إلى من يشكك في استمرار الصراع بين القوى العظمى بمجرد سقوط سور أو عقد هدنة أو اتفاقية تجارية علينا، مازال الأمر لم يحسم وسيستمر كذلك.