أفرزت نتائج الاستفتاء، الذي شهدته بريطانيا الخميس 23 يونيو 2016، وضعا لم يتوقعه أي من المعسكرين، كما عرت تلك النتائج واقعا من التناقضات بين مكونات المجتمع البريطاني أو بالأحرى المجتمعات البريطانية المتعايشة فيما بينها. وقد ظهر ذلك جليا في خارطة التصويت التي وقف عندها كثيرا الباحثون.
فمن مفارقات هذه الخريطة أن كيانات ذات مطالب انفصالية عن إنجلترا مثل اسكتلندة وإيرلندة الشمالية صوتت لفائدة البقاء، وهو ما زاد من تعقيد المشهد حيث سارع قياديون في اسكتلندة بعد إعلان النتائج للمطالبة باستفتاء خاص طالما لم تعد البلاد ضمن التكتل الأوروبي، بينما طالب زعماء إيرلنديون بتحقيق الوحدة مع جمهورية إيرلندة المستقلة عن التاج البريطاني.
وفي إنجلترا نفسها صوتت الحواضر الكبرى ذات التركيبة السكانية المختلطة لفائدة البقاء، بينما صوت الريف الإنجليزي بوضوح لفائدة الانسحاب، وهو ما دفع كثيرين إلى القول بأن مستقبل بريطانيا بات يرسمه الآن سكان الأرياف. وتناقلت مواقع التواصل الاجتماعي مطالبات لعدد من سكان العاصمة لندن بتنظيم استفتاء للانفصال عن باقي الجهات. كما يعتقد بأن أصوات الشباب بشكل عام ذهبت لصالح الانفصال بينما راهن الناخبون الأكبر سنا على خيار البقاء.
وبينما لا يعرف حتى الآن مصير الاتحاد الأوروبي كأحد أنجح التكتلات الاقتصادية في العالم بعد انسحاب مكون من مكوناتها الأساسية، وسط تكهنات بأنه ماض نحو التفكك، فإن استفتاء "الخميس الأسود" عصف بالمشهد السياسي في بريطانيا بشكل غير مسبوق. ديفيد كامرون، ذلك الشاب الليبرالي الذي قاد حزب المحافظين منذ عام 2005 ببراغماتية غير مسبوقة، تمكن من الصمود أمام تحديات سياسية كثيرة ولم تعصف به حتى أزمة أوراق بنما التي اتهم فيها بالتهرب الضريبي مع والده، لكنه لم ينتظر كثيرا بعد صدور المؤشرات الأولى لفوز دعاة الانفصال وأعلن عن وضع حد لمسار سياسي لم يكن يتوقع له هذه النهاية المأساوية.
في المقابل أثبتت النتائج تراجع أداء حزب العمال المعارض، حيث أيد زعيم الحزب جيريمي كوربين خيار البقاء لكن دون أن يكون في الواجهة، بحيث بدا في النهاية أن المعركة خاضها تياران متنافسان داخل حزب واحد هو حزب المحافظين.
من ناحية أخرى اعتبر كثيرون أن الزلزال الذي هز بريطانيا فاجأ الناخبين أنفسهم وذلك لكون عدد من الذين صوتوا لفائدة الانسحاب إنما كانوا يريدون توجيه رسالة احتجاج للحكومة ولم يدركوا خطورة تلك الورقة البيضاء الصغيرة التي تم رميها في الصندوق. والآن هنالك عريضة وقع عليها أكثر من مليون بريطاني يطالبون بإعادة إجراء الاستفتاء.
لكن يبقى أن مسطرة الانسحاب من الاتحاد الأوروبي معقدة وستستغرق سنوات، كما أن رئيس الوزراء ديفيد كاميرون صرح في خطاب الاستقالة أنه لا ينوي التوقيع على مرسوم بدء تفعيل الانفصال، تاركا ذلك لمن سيخلفه.
مغاربة بريطانيا والتضييق الاقتصادي
لعل من أوجه معاناة الجالية المغربية المقيمة في بريطانيا بعد هذا التسونامي السياسي الكاسح انخفاض قيمة الجنيه الاسترليني وانعكاس ذلك على تحويلاتهم نحو المغرب، وهو أمر لا تخفى أهميته في بلد يعتمد أيما اعتماد على تحويلات مغاربة المهجر. حتى رحلات الصيف إلى المغرب ستصبح أكثر كلفة فيما بات من شبه المؤكد أن شركات الطيران منخفض التكلفة ستقوم برفع أسعار التذاكر بسبب القيود المحتملة على حركة الطيران في أوروبا. وربما تحذو حذوها شركات الطيران الأخرى.
ولن يكون مغاربة بريطانيا في معزل عن الآثار الاقتصادية الأخرى على البريطانيين بعد الانسحاب ومنها: ارتفاع أسعار المواد المستوردة ومن بينها المواد الغذائية ،علما بأن العاصمة لندن ظلت منذ سنوات تتربع على عرش المدن الأكثر غلاء في العالم. ومن الزيادات الأخرى المتوقعة زيادة سعر الفائدة والضرائب وخدمة الدين وإيجارات البيوت بالإضافة إلى توقعات بارتفاع نسب البطالة ونقص في المساعدات الاجتماعية.
من الناحية الماكرواقتصادية، الاتحاد الأوروبي هو الشريك التجاري الأول للمغرب ولن يعود هذا التكتل الاقتصادي كما كان بعد انسحاب دولة مثل بريطانيا وليس من مصلحة المغرب إطلاقا أن يكون شريكه عبارة عن مائدة بثلاثة أرجل.
إضافة إلى كل هذا سيجد المهاجر المغربي في بريطانيا نفسه في مناخ من الخوف بعد النتائج التي أفرزت فوز تيار معاد للهجرة والمهاجرين ولا يتوانى في التضييق عليهم بشتى الطرق. صحيح أن الوضع في بريطانيا يختلف ربما عن دول مثل فرنسا وإسبانيا من حيث قوة التيار اليميني المتشدد وانتشار بعض الممارسات العنصرية والمعادية للعرب والمسلمين، لكن السلاح الجديد للتضييق على المهاجرين هو السلاح الاقتصادي وذلك بنهج سياسات تقشفية تستهدف بالدرجة الأولى الفئات المعروفة بهشاشتها الاقتصادية ومن ضمنها المهاجرون.