منذ فجر الاستقلال، حظي الحقل الدبلوماسي بالرعاية الشخصية للمؤسسة الملكية، إذ كان دائما قرار تعيين السفراء وتغييرهم مندرجا ضمن صلاحيات الملك. وحتى مع الإصلاح الدستوري الأخير(2011) لم تتغير المعادلة إذ ظل قرار التعيين بيد الملك بناء على اقتراح من رئيس الحكومة، وبمبادرة من الوزير المعني.
لكن أهم ما كان يميز هذه المجال الملكي كون الاهتمام كان ينصب في الغالب على البلدان ذات الرهانات الاستراتيجية المباشرة، في حين ظلت سفارات بلادنا في العديد من الدول تخضع إلى تسابق محموم من طرف الأحزاب لتقديم مرشحيها لاعتبارات توزيع الريع الدبلوماسي على المرضي عنهم، إما مكافأة لهم بعد نهاية الخدمة، وإما تجاوبا مع تدخلات عائلية أو زبونية أو سياسية
أو إبعادا لهم إلى الخارج لتسريع ترتيبات حزبية داخلية.
ليس صدفة أن يتم، على سبيل التمثيل فقط، تعيين عبد الرحيم بوعبيد أول سفير للمغرب في باريس بهدف محدد، متمثل في استكمال المفاوضات من أجل الاستقلال. وليس صدفة أن يعين الحسن الثاني عبد الهادي بوطالب سفيرالبلادنا في الولايات المتحدة الأمريكية سنة 1974 بهدف محدد: إطلاع الأروقة الأمريكية والدولية على تفاصيل ملف مطلبنا الوطني في استكمال
تحرير ترابنا، تمهيدا لإطلاق المسيرة الخضراء سنة بعد ذلك.
لم يكن بوعبيد وبوطالب وغيرهما كثيرون مجرد حاملي رسائل، أو مجرد دبلوماسيين اعتياديين، ولكنهم كانوا خداما لقضيتنا الوطنية عبر كل المنعطفات التي شهدتها في لحظات المد والجزر. ومقابلهم كان سفراء آخرونيتنزهون في المحافل الدولية، شغلهم الشاغل مراكمة ثرواتهم الشخصية ورعاية مصالحهم في الداخل.
إن هذا الطابع المزدوج، حيث «السفراء الجنود» يختلفون عن «السفراء السياح»، هو ما ظل يسم نشاط سفرائنا في الخارج.
ولذلك يتوجه ملف هذا العدد إلى تحليل هذا السلوك الدبلوماسي على ضوء القرار المرتقب بتعيين سفراء جدد في العديد من الدول والإفراج عن لائحة المجلس الوزاري بالعيون، وكذلك على خلفيات التطورات الأخيرة التي تعرفها قضيتنا الوطنية بعد تنامي تحرشات المحيط الإقليمي والدولي بنا، خاصة من لدن الإدارة الأمريكية والمحكمة الأوربية ومحيط الأمين العام الأممي.
ضمن هذا الانشغال نسجل ثلاث ملاحظات:
أولا: نسجل استسلام بعض سفرائنا في الدول والمؤسسات التي تعرف توترا مع بلادنا إلى براثن الكسل الدبلوماسي بما يعنيه ذلك من غياب المبادرة، نخص
بالذكر السفراء في بعض مكونات المحيط الدولي الذي تأكد أنه لا يتوقف في أن يمارس علينا الابتزاز، من حين لآخر، بعد انتصار الجزائر علينا في اختراق مساحاته التشريعية والمدنية. ونخص بالذكر تحديدا سفارت بلادنا فيالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإسبانيا والدول الاسكندنافية، إضافة إلى المحور الدبلوماسي الجديد الذي أعطاه الملك دفعا قويا من خلال
زياراته لفدرالية روسيا والصين، وزيارة المرتقبة إلى الهند. وهو ما يؤكد الحاجة إلى السفراء الجنود لا السفراء السياح.
ثانيا: نسجل من ناحية ثانية فداحة الغياب الملحوظ اليوم في بعض السفارات المغربية التي بلا سفراء إلى حدود اليوم كما في حالتي الكويت والسويد وسويسرا. ولا نحتاج إلى كبير جهد لإبراز مكانة هذه الدول في رهاننا علىالخارج، فالسويد كانت قد أشهرت ضد بلادنا، في صيف 2015، ورقة الاعترافبجمهورية الوهم، وهو ما يتطلب حضورا ديبلوماسيا وازنا في الدائرة
الاسكندنافية. كما لا يعقل أن يستمر غياب السفير المغربي عن الكويت لجسامة مكانة هذه الدولة في علاقتنا مع مجلس التعاون الخليجي، وبالنظرإلى الدور الكويتي في إنعاش مشاريع الاستثمار ببلادنا، خاصة بعد التفاعلات الإيجابية المترتبة عن حضور المغرب في قمة الرياض الأخيرة، أما سويسرا (نقصد بيرن وليس جنيف) فهي الدولة الحاضنة للمنظمات الدولية وبالتالي هي الحاضنة لمعظم الاتفاقيات الدولية، فضلا عن كونها مركزا ماليا عالميا تتحكم في معظم مفاصل الاقتصاد العالمي من حيث التمويل والتأمين وإعادة التأمين وإمساكها بعصب التجارة البحرية العالمية. كما لا
يعقل أن نعيش استمرار مشكل البرود الدبلوماسي مع الجارة موريتانيا أو بعض القوى الإقليمية بإفريقيا وأمريكا اللاتينية.
ثالثا: أما الملاحظة الثالثة فتهم باقي دول المعمور الأخرى. وفي هذا الصدد نذكر بالدرس الدبلوماسي الذي يفيد أن السفير لا يمكن أن يعمل فقط في لحظات التوتر. بل المطلوب منه أن يجتهد في استباق الزمن عبر نسجالعلاقات والصداقات وصنع الصيغ والأفكار، حتى في الدول الأكثر وفاءوتعاطفا مع قضايانا.
إن فكرة «السفراء الجنود» يمكن أن يكون لها مردودية في كل الدول، خاصة دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية، ودول الشرق الأسيوي حيث ينتظرنا جهد دبلوماسي كبير للتعريف بتطورات ومستجدات قضيتنا الوطنية، ولاستقطاب الاستثمار، ولترويج منتوجاتنا الاقتصادية، ولنسج العلاقات الفاعلة مع كل روافد المجتمع المدني والإعلامي هناك.
فهل تتحقق كل الشروط في السفراء المنتظر تعيينهم في المهام الجديدة؟
لا يمكن أن نستبق التعيينات التي من الطبيعي أنها تخضع لاعتبارات مدروسة. ومع ذلك فإننا نرى أن من واجبنا الإعلامي الوطني التنبيه إلى أن الشرط المغربي الراهن يفترض اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، «بروفيلا» جديدا للسفير، فاعل في رهان مخاطبة الآخر بلغاته، وعارف بحجمه كدبلوماسي يوجد على جبهة الحرب، وليس في نزهة، وقادر على مخاطبة الرسميين وهيئات المجتمعالمدني بالدولة المضيفة، ومتمتع بمعرفة واسعة بتاريخ المغرب وثقافته ورصيده الحضاري ومطوق بدفتر تحملات يتعين على السفير أن ينفذه على المدىالمتوسط والطويل في البلد الذي سيعين فيه.لهذه الاعتبارات نرى التعيينات المرتقبة شوطا حاسما في رهان النهوض بأدائنا الدبلوماسي من جديد.
إن المطلوب راهنا أن نكون على الموعد المتناغم مع حجم التحديات لنحقق وثبة حقيقية في عملنا الدبلوماسي تجاوبا مع الجهد الكبير الذي يبذله المغرب في كل الأوراش الكبرى المفتوحة منذ عام 2000.
تفاصيل أخرى في العدد الجديد من أسبوعية "الوطن الأن"