الثلاثاء 19 مارس 2024
كتاب الرأي

عبد الرحمان العمراني: فصل فيما بين العروي وراولز من توافق في موضوع الليبرالية

عبد الرحمان العمراني: فصل فيما بين العروي وراولز من توافق في موضوع الليبرالية عبد الرحمان العمراني

وأنا أضع جانبا، اليوم، بعد أن أنهيت قراءة الكتاب الضخم للفيلسوف السياسي الأمريكي John Rawls جون راولز  political liberalism تذكرت -يا لمصادفة القراءات- عبد الله العروي. والمناسبة تفسير معنى الليبرالية السياسية والموقف منها.

الرجلان/ المفكران مختلفان في مستويات أساسية: في  التكوين  والروافد المعرفية، (فيلسوف ومؤرخ)، وفي المنشأ والأصل القومي (أمريكي ومغربي)، وفي طبيعة الإشكالات النظرية والعملية التي شغلت كلا منهما (شروط النهضة في الوضع العربي بالنسبة للعروي، وتجديد أسس النظريات التعاقدية في حالة راولز)، ولكنهما يتفقان كل من منطلقه، ودون أن يلتقيا في نقاش أو مناظرة، في التأكيد على أهمية وضرورة  استيعاب الروح العميقة لليبرالية السياسية. (لندع جانبا حمولتها الاقتصادية بعيوبها المعروفة، على الأقل في مرحلتها ما قبل الكينزية).

أذكر أن العروي كان يدعونا إلى استيعاب الروح العميقة لليبرالية السياسية وقيمها الكبرى المؤسسة (الوضعية، العقلانية الحريات والحقوق، فكرة التعاقد، إلخ)، دونما حاجة بالضرورة أن نعيش الليبرالية على المستوى الاقتصادي. وأذكر، أيضا، كم واجهنا هذه الاطروحة في السبعينيات، حينما كنا نتلقى الليبرالية تحت تأثير ماركسية زاحفة لا تبقي ولا تذر.

جون راولز انشغل بجانب الفلسفة السياسية في الموضوع. وكان منذ سبعينيات القرن الماضي أهم فيلسوف سياسي معاصر، على الإطلاق، في مجال تجديد النظريات التعاقدية على ضوء النواة الصلبة لمنطق الليبرالية السياسية.

والسؤال الكبير الذي صاغه، قدمه على الشكل التالي: كيف يمكن لمجتمع يختلف أفراده في كل شيء انطلاقا من تملكهم لما يسميه راولز مذاهب شاملة (دينية/ فلسفية/ أخلاقية)، مذاهب تروم وتسعى الضبط الوجود الاجتماعي والفردي وتوجيه التفكير والسلوك، في كل مناحي الحياة. كيف يمكن لمجتمع منقسم بهذا الشكل أن يتفق على قيم سياسية موحدة وقواعد سلوك سياسية مشتركة ومقبولة من طرف الجميع؟

والجواب الذي يقدمه راولز، على ضوء قراءة واسعة وموثقة لأساسيات الفكر الليبرالي وأعلامه الكبار، أن الليبرالية (الحقيقية طبعا) هي وحدها النسق السياسي الذي يضمن عدم تعدي أو ابتلاع أي من المذاهب الشاملة للحقل السياسي.

استقلالية الحقل السياسي عن المذاهب الشاملة ذات الطموح القاهر الكاسح لضبط كل شيء، هو ما يوفر قاعدة وإطارا framework لصياغة قواعد التعامل والتعايش السياسي في النظم الليبرالية.

هي إذن نقطة توافق كبرى بين العروي وراولز رغم اختلاف المنشأ والتكوين والاشكالية.

على ضوء ذلك، وكيفما كان الموقف الذي يمكن أن يكون لنا من الليبرالية، ألا يصح، ونحن نرى ما يحدث من أزمات ديمقراطية مستعصية في العالم العربي، أن نقول إن الجزء الأكبر من المحنة السياسية تعود إلى ابتلاع المذاهب الشاملة (بالمعنى الذي يعطيه لها راولز) للحقل السياسي برمته ومصادرة حقه في تكوين مساطره وقواعده المستقلة؟