تدل المؤشرات الأولية على أن الانتخابات التشريعية المقبلة في المغرب ستكون حامية الوطيس. ويسود الانطباع من التحركات والمحاولات الجارية لبناء بعض التحالفات، والتي بدأت إرهاصاتها في الظهور أن الاتجاه العام يسير نحو تبلور ثنائية قطبية حول حزب العدالة والتنمية من جهة، وحول حزب الأصالة والمعاصرة من جهة ثانية.
ومن المحتمل إلى حد كبير أن يشذ حزب الاستقلال عن قاعدة الاصطفاف هنا أو هناك، وأن يظل الارتباك وعدم وضوح الموقف من اللعبة السياسية والانتخابية كما هي طابعا ملازما إلى آخر لحظة لقوى اليسار المنضوية تحت لواء فدرالية واحدة، خاصة بعد أن أفشلت قوى محسوبة على هذا اليسار محاولات جنينية لبناء قطب يساري جامع.
وبحسب مجريات الاتصالات لا يوجد أمل في تدارك تشرذم القوى اليسارية، التي تنخر بعضها صراعات داخلية، ناجم معظمها عن طموحات شخصية ومصلحية للقيادات أدت إلى تفتت بعض القوى بخروج عدد من مناضليها لتأسيس كيانات حزبية مستقلة، أو في أضعف الإيمان إلى إحداث شروخ عميقة في القوى الأخرى، التي يبدو أنها نزفت كثيرا، وما تزال عرضة للاستنزاف في سعيها إلى ترميم صفوفها.
يضاف إلى تشرذم اليسار هذا عدم تمكن قوى المجتمع المدني المعتدة باستقلاليتها، النائية بنفسها عن السير في ركاب هذه القوة السياسية أو تلك عن إيجاد موطئ قدم راسخ لها في الحلبة السياسية بشكل يتيح لها فرصة إحداث التأثير المطلوب، وتمرير رسالتها النضالية إلى الفئات الاجتماعية الهشة الأكثر عرضة للابتزاز خلال المناسبات الانتخابية ؛ بل إن بعضها، وخاصة تلك التي كانت محرك عجلة التغيير الهادئ باتت مستنزفة في معركتها للبقاء وإثبات الوجود.
لهذا خلت الساحة بشكل كبير للذين يسعون إلى تمييع الساحة السياسية عبر تكريس هذه الثنائية مستغلين في محاولة تمرير أطروحتهم، وفرضها أمرا واقعا نتائج انتخابات الجماعات الترابية الأخيرة، التي أفرزت تقدما ملحوظا لكل من العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة على حساب القوى السياسية التقليدية في البلاد، وبنوع من تقاسم النفوذ بينهما في المناطق الحضرية، وكذلك في المناطق القروية.
وبالمتابعة اليومية للمستجدات على الساحة الوطنية يلاحظ أنه يوما بعد يوم يجري ترسيخ هذه الثنائية التي تتم تغذيتها بشكل احترافي كبير من خلال التركيز على الأبعاد الشخصية لزعيمي القطبين، وما يقومان به من أنشطة ويدليان به من تصريحات أغلبها ضد بعضهما البعض، وبمفردات تدخل أحيانا كثيرة في خانة السب والقذف، ناهيك عن تبادل الاتهامات غير الموثقة.
ولاشك في أن إمعان الطرفين في هذا الأسلوب ذي الطابع الصبياني المتسم بالمكابرة والعناد يدفع إلى الاعتقاد بأنهما يؤديان ولو من دون تنسيق مسبق بينهما دورا كبيرا في إطار تعميم العنف اللفظي كأداة من أدوات الترويج للعزوف عن السياسة، وكأنها ليست سوى عنفا يبدأ بالكلام وقد ينتهي بالاعتداء الجسدي، فاجتنبوها لعلكم تنجون.
والواضح أن عملية ترسيخ البعد الثنائي بهذه الطريقة عملية مقصودة رغم عدم توفر الزعيمين معا على الكاريزما الضرورية للإقناع في مثل هذه الحالات، وذلك لتغطية غياب النقاش والجدال الجادين اللذين يفترض أن يكونا على أساس برامج وسياسات للخروج بالبلاد من مشاكلها السياسية والحقوقية والاقتصادية والاجتماعية، مصاغة بشكل علمي وعملي، وليس مجرد شعارات لا تسمن ولا تغني من جوع.
ولكن هذا الاختباء وراء الشعارات والمزايدات والمناكفات، وكذا اختلاف الرداء الإيديولوجي الذي يتدثر كل منهما به لا يخفيان حقيقة أنهما معا يدافعان عن نفس النموذج تقريبا لتسيير الشؤون العامة. نموذج قوامه النيولبرالية بوجهيها المتوحش لدى الأول، ووجهها المفترس لدى الثاني، مع ما تتطلبانه من إجهاز على المكتسبات الاجتماعية للأغلبية الساحقة من الشعب، كما يتضح من التعنت الذي يبديه القطب المسير للحكومة في الحوار الاجتماعي مع النقابات، ومن عدم تحمس القطب الثاني المفروض أنه فصيل معارض لدعم تلك المطالب.
وجه تقارب المنطلقات الاقتصادية لدى القطبين، وهي المنطلقات الأساسية في تحديد مصائر الشعوب يتعزز بسعيهما معا إلى :
*استدعاء العنصر الخارجي إلى الساحة السياسية الداخلية وذلك عبر تبادل الاتهامات عن موارد التمويل ومصادر الدعم. فهذا بالنسبة لذاك مجرد رقم في معادلة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، وذاك بالنسبة لهذا مجرد أداة لسياسة دول خليجية ترغب في وأد الربيع العربي وإقبار التطلعات التي أنعشها.
وفي حمأة صراعهما هذا لا أحد منهما أدرك التبعات الخطيرة لمثل هذه الممارسات، ولا انعكاساتها السلبية على مسلسل ترسيخ قواعد الديمقراطية، وإرساء مفاهيم التناوب على السلطة من خلال العملية الانتخابية.
*الاجتهاد في التقرب إلى السلطة العليا في البلاد بأشكال متعددة منها الضرب المتبادل تحت الحزام، وبطرق كثيرا ما تكون محرجة إن لم نقل مسيئة لتلك السلطة الحريصة على النأي عنهما لأنها دستوريا للجميع، وعلى مسافة واحدة من الجميع.
وأخذا بالاعتبار لهذه المعطيات التي يجري إغفالها في غمار صراع الديكة القائم بينهما لا يمكن استبعاد ائتلاف يضمهما معا تحت دعاوي عديدة كالظرفية الاقتصادية والاجتماعية والتحرشات الأجنبية بالبلاد ووحدتها الترابية وغير ذلك من المطيات ؛ الأمر الذي جعلني أستحضر النكتة التالية :
عندما رجع التلميذ الأمريكي إلى البيت دار بينه وبين والده الحوار التالي :
/ التلميذ : درس اليوم كان حول مفهوم القضاء والقدر، ومفهوم المصيبة، ولم أستوعب شيئا. فهل يمكنك أن تشرح لي المفهومين أكثر ؟
-الوالد : ليس لدي تعريف قاطع لهما، ولكن سأعطيك مثالا يساعدك على التمييز بينهما.
/ التلميذ : كيف ؟ أرجوك.
-الوالد : يتصارع في الساحة السياسية الأمريكية أصحاب الفيل ( الجمهوريون ) وأصحاب الحمار ( الديمقراطيون ). إذا فاز أحدهما في الانتخابات وتولى السلطة فذلك قضاء وقدر. أما المصيبة فهي أن يتفق الاثنان معا على حكمنا.
فاللهم لا تحشرنا في زاوية الاختيار بين عتمة المصباح وعطب الجرار ؛ وإلا فالمقاطعة قد تكون القرار، وسيكون لها وقع ودوي شديد إذا تبناها اليسار.