يرى عبد المالك إحزرير، أستاذ القانون العام بجامعة مولاي إسماعيل بمكناس، أنه أمام التهميش الاجتماعي الذي عرفناه، وعدد من الإفرازات التي تعد من تداعيات النهج النيوليبرالي، أضحى من الضروري مراقبة استعمال المال العام، وأصبحت السلطة والنخبة السياسية مراقبة أكثر من ما كان عليه الأمر في السابق. مشيرا إلى أن المؤسسات التي تمت دسترتها ينبغي تفعيلها نصا وروحا، ومنها المجلس الأعلى للحسابات. مؤكدا أنه حينما سنقفز فيما بعد إلى الحديث عن "الاختلاسات"، ستتدخل النيابة العامة وتطبق المساطير القانونية وتصدر أحكاما قضائية تتعلق بمحاسبة مرتكبي هذه الاختلاسات.
+ تمت دسترة المجلس الأعلى للحسابات منذ دستور 1996، كما تم توسيع صلاحياته بمقتضى دستور 2011، وهو ما مكنه من إنجاز تقارير مهمة في إطار الصلاحيات الموكول إليها فيما يتعلق بالرقابة على المال العام، لكنه مازال يثير الكثير من النقاش والجدل بخصوص مدى نجاعته في إيقاف نزيف تبديد وهدر المال العام ما رأيك؟
- لابد من الإشارة أولا إلى أن الدولة تقلصت فيما يتعلق بتوزيع الثروة، أو كما يقول الفرنسيون un état comptable أي الدولة التي تخضع توازناتها للمراقبة وكأنها مقاولة، بدل تقسيم الثروة لتحقيق الرفاه الاجتماعي.. فلما كان الرفاه الاجتماعي، في فترة السبعينيات من القرن الماضي، لا أحد كان يشعر أنه كان هناك فساد. ولكن الآن، ومع المتغيرات الدولية فيما يتعلق بوظيفة الدولة، أضحت الدولة مطالبة بتفعيل الشفافية والعمل بالتوازنات الماكرواقتصادية في التدبير، والتقليص من توزيع الثروة، وأضحت الدولة منشطة للاقتصاد، وتنشيط الاقتصاد يتطلب إقرار الشفافية. في إطار هذا المنطق الاقتصادي لما جاءت دسترة 2011، أدخلنا بعض المقتضيات التي تسير في المنطق الاقتصادي الجديد، فالمدبر لم يعد رجل سياسة بل مدبر un manager، يجب أن يدبر الأمور المتعلقة بالمال العام والاستثمار في المال العام في إطار المسؤولية.. فأمام التهميش الاجتماعي الذي عرفناه، وعدد من الإفرازات التي تعد من تداعيات النهج النيوليبرالي، أضحى من الضروري مراقبة استعمال المال العام، وأصبحت السلطة والنخبة السياسية مراقبة أكثر من ما كان عليه الأمر في السابق. كما أصبحت هناك سلطات مضادة من المجتمع المدني لمراقبة تدبير المال العام. في هذا الإطار تمت دسترة المجلس الأعلى للحسابات، وتم الرفع من قيمة هذه المؤسسة، وعززنا ذلك ببعض مؤسسات الرقابة من قبيل الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة، مؤسسة الوسيط لحل المنازعات وتحقيق قفزة نوعية فيما يتعلق بالتقارب بين المجتمع المدني والسلطة.. وهذه كلها آليات تدخل في سياق العقلنة السياسية والعقلنة الاقتصادية.
+ لكن البعض يرى أن المجلس الأعلى للحسابات مازال غارقا في مراقبة التسيير، ولم يرق إلى قضاء مالي يمكنه مساءلة مرتكبي جرائم هدر ونهب المال العام؟
- كما قلت، فهذه تشكل بداية، فرئيس الدولة، وبناء على الفصل 41 و 42 من الدستور، أكد في خطابات متعددة أن المكون المؤسساتي ليس وحده كاف لخلق دولة معاصرة وحديثة، وأنه لابد من إعادة النظر في المكون النخبوي، سواء على مستوى التقنوقراط الموجودين في الإدارة، أو على مستوى النخب السياسية الحكومية، بعدما وقع ما سمي من طرف الصحافة بـ "الزلزال"، أو كذلك على مستوى الجماعات الترابية، علما أن الوظيفة الجديدة للجماعات الترابية هي التنمية.. وبالتالي فالمقرر العمومي يحاول أن يخلق من الجماعات الترابية في إطار ما تحت الدولة infraétatique تدبير يحقق الرفاه الاجتماعي، أي الإقلاع الاقتصادي انطلاقا من التراب. إذن، الآن، المؤسسات التي تمت دسترتها ينبغي تفعيلها نصا وروحا، ومنها المجلس الأعلى للحسابات. وأعتقد أن الإرادة السياسية متوفرة لكي يسير المجلس الأعلى للحسابات أكثر ما يمكن، حيث لم نعد نتحدث فقط عن "اختلالات"، وربما سنقفز فيما بعد إلى الحديث عن "الاختلاسات"، وحينها ستتدخل النيابة العامة وتطبق المساطير القانونية وتصدر أحكام قضائية تتعلق بمحاسبة مرتكبي هذه الاختلاسات، لأننا أمام دولة القضاء، تماما كما وقع في "الزلزال السياسي" إثر تقرير المجلس الأعلى للحسابات فيما يتعلق بمشروع منارة المتوسط بالحسيمة، والذي تحدث عن وجود "تهاون" و"اختلال"، فيما يتعلق بتدبير هذا المشروع.
+ انطلاقا من مبدأ الدستور الذي يربط المسؤولية بالمحاسبة، إلى أي حد نجح المجلس الأعلى للحسابات في تحقيق هذا الرهان؟
- هذه بداية كما قلت، فأولا هناك جرأة وهناك إرادة سياسية وشجاعة سياسية.. فأن يأتي إدريس جطو بتقارير تمس بوزراء وبولاة وبعمال وقياد، وهي الجرأة التي ستطال فيما سيأتي الجماعات الترابية وزعماء الأحزاب السياسية فيما يتعلق بتمويل الأحزاب، لأن هناك خللا فيما يتعلق بالتمويل الذاتي للأحزاب السياسية الذي يبلغ 14 مليار، علما أن الدولة لم تمنح للأحزاب سوى 8 أو 9 مليار.. إذن ما هو مصدر هذا الخلل؟ ربما يعود الأمر إلى وجود إرادة لتشجيع الأحزاب السياسية، ولكن سيتم تفعيل المقتضيات الدستورية في هذا الباب فيما بعد. وأعتقد أن الإشارات السياسية واضحة بهذا الخصوص: كفانا من الفساد ونهب المال العام، ولابد أن تكون هناك رقابة على المال العام، وهناك الآن خطاب سياسي في طور التنفيذ على أساس المنظومة الدستورية الجديدة.