الثلاثاء 26 نوفمبر 2024
كتاب الرأي

يوسف لهلالي: هل أصبحت أفكار اليمين المتطرف الفرنسي توجه الحياة السياسية بباريس؟

يوسف لهلالي: هل أصبحت أفكار اليمين المتطرف الفرنسي توجه الحياة السياسية بباريس؟

تعيش فرنسا مفارقة كبيرة، اليمين المتطرف يوجد خارج مؤسسات القرار، لكن أفكار اليمين المتطرف الفرنسي أصبح لها تأثير كبير على القرار السياسي والإعلامي وكذلك على توجه الرأي العام دون أن يصل حزب الجبهة الوطنية المعادية للأجانب إلى الحكم. كل الاستطلاعات والدراسات للرأي التي تجري بفرنسا أصبحت تعكس هذه الوضعية وتبين هيمنة الأفكار المحافظة والخوف من كل هو أجنبي والرغبة في إغلاق الحدود. بل الأكثر من ذلك فإن أفكاره أصبح يتبناها جزء من الطبقة السياسية الحاكمة. وأصبح هذا الأخير يحتج لسرقة أفكاره العنصرية التمييزية.

أهم  أفكاره، والتي تم الاستحواذ عليها من طرف قصر الإليزي، هو مشروع إسقاط الجنسية عن الفرنسيين من أصول أجنبية المتورطين في أعمال إرهابية أو إجرامية خطيرة. وهي الفكرة التي تبناها الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند مباشرة بعض التفجيرات الإرهابية التي شهدتها باريس في شهر نوفمبر الماضي أمام ممثلي الأمة دون أن يتوفق في إنجاز ذلك. هذا المشروع لإسقاط الجنسية الذي رغب الرئيس في إدخاله إلى الدستور لكنه لم يتحقق، وتم إسقاط هذا المشرع في تجاذب سياسي بين الغرفة الأولى والثانية بين اليمين وبين اليسار. هذا المشروع القانوني التمييزي هو أحد أهم أفكار اليمين المتطرف الفرنسي الذي يعتبر الميز حتى بين الفرنسيين أحد أكبر مبادئه التي يدافع عنها لينافسه في ذلك رئيس اشتراكي.

اللجوء إلى قيم اليمين المتطرف والاستحواذ عليها لجأ إليها كذلك الرئيس السابق نيكولا ساكوزي، وقد أحدث وزارة للهوية الوطنية والهجرة وجعل من نقاش الهوية الفرنسية ومهاجمة الأجانب أحد أهم مكونات سياسته، وعين إلى جانبه مستشار كان من أبرز مفكري حركة اليمين المتطرف الفرنسية وهو باتريك بويسون الذي انتهت علاقته بالرئيس السابق أمام المحاكم، حيث لم يتردد في تسجيل نقاشات الرئيس الخاصة من أجل استعمالها ضده في الوقت المناسب. إنها قيم اليمين المتطرف.

أحد المؤشرات السيئة على سيطرة فكر هذا التيار المتطرف مؤخرا هي إلغاء حفل فني للفنان الفرنسي "بليك م" بمدينة فيردان بمناسبة الذكرى المئوية لنهاية الحرب العالمية الأولى، وذلك بعد حملة قادها زعماء هذا التيار المتطرف منهم نائب مارين لوبين  فلوريون فيليبو وماريون ماريشال لوبين عضوة مجلس النواب، مما دفع عمدة المدينة الاشتراكي إلى إعلان إلغاء هذا الحفل تحت تبرير مخاطر "المس بالأمن العام"، وذلك بعد الضغط الكبير الذي تعرض له العمدة في الشبكة الاجتماعية من طرف المتطرفين،  حيت استعملت أخطاء سابقة للمغني حول انتقاده لفرنسا واستعماله كلمة بلد "الكفار" في أحد أغانيه القديمة سنة 2010. الحملة بدأها اليمين المتطرف في مواقعه الاجتماعية وتبناها في الاعلام،  قادته الرسميين في الجبهة الوطنية، ليلتحق بهم بعض أعضاء اليمين الكلاسيكي مثل الوزيرة السابقة لنيكولا ساركوزي نادين مورانو وكذلك ايرفي ماريتون.. هذا الضغط دفع كتابة الدولة لقدماء المحاربين في بيان لها إلى التبرؤ من هذا الحفل الذي اعتبرته خارج الإطار الرسمي، رغم أن عمدة مدينة فيردان صرح أن الحفل الغنائي كان بدعم من طرف الدولة. هذا الضغط الذي قام به اليمين المتطرف دفع عمدة اشتراكي ومسؤولي الدولة إلى التراجع عن الحفل، الذي كان فنيا يهدف إلى تقريب جمهور جد شاب ومن أصول أجنبية إلى الاحتفاء بذاكرة نهاية الحرب. رغم أن المغني "بليك م" شارك جده في الحرب الأولى كمحارب سنيغالي إلى جانب الفرنسيين. لكن ذلك لم يشفع له حتى في تقديم حفل غنائي الذي تم إلغاؤه رغم أن اليمين المتطرف لا يتحمل أية مسؤولية سياسية بمدينة فيردان.

ترسخ أفكار اليمين المتطرف في المجتمع الفرنسي عكستها مواقفهم من اللاجئين السوريين أيضا، وهذه الصورة السيئة بفرنسا حول شعب أنهكته الحرب التي يقودها ضده من جهة النظام السوري بدعم روسي وإيراني، ومن جهة أخرى تنظيم داعش. وهو ما يعني نجاح اليمين المتطرف في فرض تصور سلبي عن الهجرة.

إعلان عمدة مدينتين صغيرتين فرنسيتين من اليمين الكلاسيكي لحزب ساركوزي، أنهما لن يقبلا إلا باللاجئين السوريين ذوي الديانة المسيحية ورفض الآخرين، خاصة ذوي الديانة المسلمة، هو موقف عنصري وتمييزي يتم التباهي به في الإعلام كأنه حق من حقوق الإنسان.

مؤخرا أحد المنتخبين من اليمين المتطرف لمارين لوبين اعتبر هو الآخر أن اللاجئين السوريين ليسوا بلاجئين، واعتبرهم مجرد "جبناء" و"فارين من الحرب"، خاصة الذين تركوا أطفالهم ونساءهم بعين المكان، وقارن ذلك بفرنسا أثناء الحرب الكبرى، مدعيا أن الفرنسيين لم يتركوا بلدهم أثناء الحرب وقاوموا الاحتلال. وهو ادعاء خاطئ وكاذب.. فأثناء الحرب الكبرى، وحسب المصادر التاريخية الفرنسية، فإن ما بين 9 و10 ملايين فرنسي فروا من مناطق الحرب من أجل البحث عن مناطق آمنة لهم ولأسرهم.

هذه الحملة ضد اللاجئين السوريين تعكس موقف الرأي العام الذي يحرضه اليمين المتطرف بفرنسا حول خطر استقبال هؤلاء اللاجئين، الذي لم يبد تعاطفا مع الفارين من الحرب السورية مثلما وقع في ألمانيا التي استقبلت أكثر من مليون لاجئ لوحدها، في حين أن فرنسا لم تستقبل رسميا أكثر من 5000 آلاف لاجئ، بل حتى السوريون أنفسهم يتجنبون اللجوء إلى فرنسا إلا العدد القليل الذي لا يعرف الوضع بهذا البلد الذي تحول من بلد منفتح على اللجوء ومتضامن مع ضحايا الحرب إلى بلد يخاف من كل ما هو أجنبي، بل يتنكر لمبادئ فرنسا نفسها.

هذه كلها نماذج من فرنسا حول سيطرة أفكار اليمين المتطرف على المجتمع والطبقة السياسية الحاكمة: سحب الجنسية من الأجانب، منع مغني أسود من الاحتفال بذكرى الحرب بفيردان والموقف السلبي وأحكام القيمة المسبقة ضد اللاجئين الذي وصل عدد جد قليل منهم لفرنسا.. ورغم ذلك تستمر حملة للإساءة إلى صورتهم ونعتهم بالجبناء. وهو ما يعكس موقفا معاديا للأجانب بصفة عامة.

هذه الأجواء العدوانية بفرنسا ضد كل ما هو أجنبي يعكسها الإعلام ويساهم فيها بتحول جزء منه إلى بوق لهذه الأفكار المقربة من المتطرفين. أحد المعلقين إيريك زمور (وهو كاتب فرنسي من أصل يهودي جزائري) لم يتردد في القول والكتابة "إن حكومة فيشي المتعاونة مع النازية أنقذت اليهود الفرنسيين ولم تقدمهم للمحرقة إلا اليهود الأجانب". هذا المعلق يشتغل بعدة قنوات إذاعية وتلفزية وبجريدة الفيغارو الذي صرح أن المسلمين يشكلون خطرا على فرنسا في كتابه "الانتحار الفرنسي" وهو كتاب يغدي معاداة الإسلام وحقق مبيعات كبيرة. بل لم يتردد في التصريح لأحد الجرائد الإيطالية إلى ضرورة ترحيل المسلمين من فرنسا كما رحلت النازية اليهود أثناء الحرب الثانية، وهي التصريحات التي جرت عليه متابعات قضائية. لكن رغم ذلك فإن عدة وسائل إعلام كبيرة تستمر في احتضانه.

فينكيل كروت، وهو كذلك معلق إعلامي معادي للإسلام، كاد أن يصيبه الجنون في مختلف برامجه وتعليقاته الأخيرة في الإعلام، بسبب نجاح عمدة مسلم بمدينة لندن.. وهو الامر الذي لم يهضمه، واعتبره مؤامرة وتهديدا للغرب. ويعتبر من الكتاب الأساسيين الذي يغذون أفكار اليمين التطرف والأفكار المعادية للإسلام على الخصوص. وقد تم طرده مؤخرا من طرف حركة "نوي دوبو"ن حيث أراد أن يشارك في النقاش الليلي مع الشباب بساحة لاريبيبليك، وهو الأمر الذي لم يقبله المشاركون في هذه التظاهرة، حيث تم طرده بشكل مهين.

أصبح الخطاب السياسي لليمين المتطرف يسيطر على النقاش السياسي ببلد فولتر، وأصبح مثار جدل ونقاش خاصة بالخارج الذي لم يعد يفهم فرنسا، حيث أصبحت أفكار اليمين المتطرف تحكم هذا البلد رغم أنه حزب موجود بالمعارضة، وأصبح عدد مما يسمى بالمثقفين والمعلقين يدافعون وينشرون أفكاره بمختلف وسائل الإعلام الفرنسية، وتأثيره اليوم بارز على القرار والاقتراحات، وهو ما يتضح من الأمثلة التي تحدثنا عنها في السابق.

كتاب المؤرخ شلومو صاند "نهاية المثقف الفرنسي، من زولا إلى هولبيك" يطرح هذا السؤال بحدة، ورصد هذا التحول نحو التطرف بفرنسا وكيف كانت باريس ومثقفوها في الطليعة العالمية من أجل الدفاع عن عالم افضل. وكانت باريس تستقطب المثقفين والفنانين من مختلف بقاع العالم من أجل هذه المعارك النبيلة، الجميع كان يحلم بباريس وبفرنسا. اليوم حسب الكاتب الأمريكي آدام شاتز أصبحت اللائكية تستعمل من أجل إحياء الخطاب الكولونيالي بفرنسا، بل إن القادة الجدد بالجبهة الوطنية المعادية للأجانب وجدوا في اللائكية حصان طروادة من أجل إخفاء عدائهم للإسلام والأجانب.

اليوم الكل يتساءل كيف أصبحت فرنسا وطبقتها السياسية رهينة فكر اليمين المتطرف؟ وهل هذا يعني أن قادته سوف يقودون باريس بعدما سبقتهم أفكارهم إلى ذلك؟