أثار الرئيس الأمريكي الحالي "رونالد ترامب" الكثير من الجدل، سواء في سياق حملته الانتخابية نحو البيت الأبيض، أو بعد أن أصبح رئيسا للولايات المتحدة الأمريكية.. ويمكن الإشارة إلى بعض قراراته المثيرة للجدل، من قبيل قراره القاضي ببناء جدار فاصل على الحدود الأمريكية المكسيكية تحت ذريعة إيقاف تدفقات المهاجرين غير الشرعيين المكسيكيين على التراب الأمريكي، مما قد ينعكس على "اتفاق التبادل الحر الأمريكي الشمالي"، والقرار الارتجالي الرامي إلى منع مواطني بعض الدول الإسلامية من الدخول إلى الولايات المتحدة الأمريكية، مرورا بإعطائه لأمر تنسحب بموجبه الولايات المتحدة الأمريكية من "اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادي"، ثم قـرار الانسحاب من ميثاق الأمم المتحدة العالمي للهجرة الذي أقرته المنظمة الدولية السنة الماضية (2016) تحت اسم "إعلان نيويورك" بهدف تحسين ظروف اللاجئين والمهاجرين وضمان حصولهم على التعلم والوظائف، ثم قرار الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ التي تم التوقيع عليها في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، وكذا قرار الانسحاب من المنظمة الدولية للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، والذي سيدخل حيز التنفيذ في 31 دجنبر من السنة الجارية، تحت ذريعة التمييز ضد إسرائيل. وهو القرار الذي رحب به رئيس الوزراء الإسرائيلي "نتانياهو" الذي اعتبره قرارا شجاعا وأخلاقيــا، داعيا إلى التحضير لانسحاب إسرائيل من المنظمة بالتوازي مع انسحاب الولايات المتحدة الأمريكية. يضاف إلى ذلك سياسات الولايات المتحدة الأمريكية وتدخلاتها العسكرية في الشرق الأوسط خاصة في العراق وسوريا، والتي لم تجلب إلا الدمار وعدم الاستقرار والفوضى "الخلاقة" مقابل دعم شامل لسياسة إسرائيل في المنطقة وما يتخللها من تعنت وتسلط وعدوان في حق الشعب الفلسطيني.
وفي هذا السياق جاء قرار اعتراف "ترامب"/ الولايات المتحدة الأمريكية بالقدس عاصمة للكيان الإسرائيلي ، ونقل سفارتها إليهــا، وهو قرار يعكس ارتجالية رئيس دولة عظمى يفترض فيه التحلي بما يكفي من الحكمة والرزانة وعمق الرؤية ودقة التقدير حفاظا على صورة الولايات المتحدة الأمريكية في العالم الإسلامي على وجه الخصوص. فالقرار هو نسف لعملية السلام الراكد الذي كانت تقوده الولايات المتحدة الأمريكية، وضرب للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني ومـس صارخ بالقدس كعاصمة لدولة فلسطين ومدينة لها وضع اعتباري في قلوب المسلمين لاحتضانها المسجد الأقصى الذي يعد أولى القبلتين وثالث الحرمين، والذي شهد رحلتي الإسراء والمعراج، وهو أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال (المسجد الحرام، المسجد النبوي، المسجد الأقصى).. لذلك فهذا القرار غير المسؤول لم يمس بدولة فلسطين المحتلة ولا بدول الجوار العربي فقط ، ولكن مس بمشاعر ما يزيد عن المليار مسلم عبر العالم، مما يقوي الاحساس بمؤامرة مفبركة أمريكية إسرائيلية ليس فقط ضد الشعب الفلسطيني المحتل ولكن ضد كل العرب والمسلمين، لذلك فقد أفرز القرار العديد من ردود الأفعال المعارضة على المستويات الرسمية والشعبية على حد سواء، خاصة في الدول العربية والإسلامية، مما سيعمق موجة العداء للسياسة الأمريكية عبر العالم وسيدخل القضية الفلسطينية في نفق مسدود لن يؤدي إلا للمزيد من الاحتقان والصراع والمواجهة، بل وسيجعل منطقة الشرق الأوسط ككل تعيش في نوع من عدم الاستقرار والفوضى، أخذا بعين الاعتبار ما يجري في المسرح السوري والمجال العراقي والمعترك اليمني.
تأسيسا على ما سبق، فقرارات "ترامب" بما فيها القرار الأخير القاضي بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، تعكس سوءا في التقدير وضعفا في الرؤية، وانحيازا مطلقا للكيان الإسرائيلي على حساب مصالح الشعب الفلسطيني المحتل، ممـا سيضرب مكانة الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى وسيضر بصورتها ومصداقيتها عبر العالم خاصة فيما يتعلق بعلاقاتها مع العالم الإسلامي. وهذا من شأنــه أن يدخل النظام العالمي في منزلقات لن تجدب إلا العداء والمواجهة، والدول العربية والإسلامية، مطالبة بالتوحد والتعبئة والرد على هذا القرار المستفـز بكل الوسائل المتاحـة صونا للكرامة أو ما تبقى منهــا دفاعا عن حرمة "مسجد أقصى" من عبث سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وحفاظا عن مدينة اقترن اسمها عبر التاريخ بقيــم المحبة والتعايش والتسامح والسلام.