جدل مقلق يحيط بعلاقات المغرب بمحيطه الدولي، فكلما تحقق لنا انتصار ما في حلبة ما من حلبات الصراع العالمي كلما برز في الأفق تشوش بطعم الانكسار يربك خطواتنا، ويعيدنا إلى الخلف. لقد راكمت بلادنا عددا من المكتسبات التي كرستها كبلد لحوار الثقافات والشعوب، ولفض المنازعات الدولية والإقليمية، وكمصدر ثقة المجتمع الدولي لكن تتفجر بين أيدينا، من حين لآخر، جمرات خبيثة من دول أو هيئات مختلفة بهدف التأثير على قضيتنا الوطنية والنيل من مكونات سيادتنا. فهل هي ضريبة تواجدنا في عالم متناقض المصالح؟ أم هي اختيارات القدر لاختبار مناعتنا الداخلية والخارجية؟ أم هو تعثر ذاتي خالص؟ أم هي «تقويسات» عين لعينة كما قد يتبادر إلى ذهن المغربي البسيط الذي يتوق إلى أن يرى وطنه آمنا ومسالما؟
يجب القول إن وضع الجدل المقلق الذي نعيشه على امتداد السنوات الأخيرة ليس حالة شاذة قياسا إلى باقي دول المعمور، فكل دولة مهما علا شأنها أو تقلص تتعرض للهزات، ومع ذلك فمن حقنا أن نتساءل حول حقيقة ما يعوق تطورنا بقصد التجاوز واستشراف آفاق أكثر سلاما لوضعنا الإقليمي والدولي.
ربما التوتر الأشرس الذي عشناه في السنوات الأخيرة هو قيام السلطات الفرنسية، في فبراير 2014، باستفزاز مكشوف من خلال الانتقال إلى مقر السفارة المغربية بباريس لإبلاغ المسؤولين هناك بدعوى قضائية تفيد اتهام مدير جهاز «الديستي» المغربي بممارسة التعذيب، وإمعانا في الاستفزاز أخضعت أجهزة مطار شارل دوغول، في مارس 2014، وزير الخارجية صلاح الدين مزوار لتفتيش مهين. حادثتان لا تضربان فقط الأعراف الدبلوماسية المنتهجة، ولكنهما تسيئان إلى الإرث الإيجابي المشترك بين المغرب وفرنسا ثقافة وتاريخا ومصالح مشتركة. ولذلك كان لا بد أن ينتفض المغرب، وكان من نتائج ذلك وقف التعاون القضائي بين البلدين، ومن حسن الحظ أن الحكمة قد انتصرت في الأخير بعد دخول قائدي البلدين على الخط.
تحرش آخر يطال المغرب في الثلث الأخير من سنة 2015، وهذه المرة من مملكة السويد التي قادها تنامي قوة أحزاب اليسار الراديكالي والخضر إلى الضغط على الحكومة لإشهار ورقة الاعتراف بـ«دولة الجمهورية الصحراوية»، ضدا على السياسة الحيادية التي كانت تطبع سلوك الساسة الإسكنداف تاريخيا. والأخطر في هذا التحرش أنه لم يجعلنا فقط نقف على بياضات الأداء الدبلوماسي المغربي، وعدم قدرته على التأثير في سياسات دولة عريقة كالسويد، ولكنه وضعنا إزاء فضيحة صارخة تمثلت في كون النازلة نبهتنا إلى أن بلادنا لم تكن تتوفر على سفير هناك منذ سنة 2014 إثر استقدام السفير المغرب من ستوكهولم ليشغل مهمة والي مدينة العيون. لكن النازلة نبهتنا، من جهة ثالثة إلى أهمية المقاربة التشاركية في البناء الدبلوماسي الموازي، بعد أن قامت وفود الأحزاب الوطنية من المعارضة والموالاة بزيارات إلى المنتديات السياسية السويدية لوضع المعنيين بالأمر هناك إزاء حقيقة جذور القضية الوطنية والتباساتها، وكشف حقائق الأمر، وهو ما أثمر نتائج إيجابية عجلت بتراجع الحكومة السويدية عن قرار الاعتراف يوم 14 يناير الماضي.
في الفترة نفسها، قررت المحكمة الأوربية، يوم 10 دجنبر2015، «الطعن في الاتفاق بين المغرب والاتحاد الأوروبي المتعلق بإجراءات التحرير المتبادل في مجال المنتجات الفلاحية والمنتجات الفلاحية المحولة ومنتجات الصيد البحري». الأمر الذي أثار اندهاش المسؤولين المغاربة بالنظر إلى أن لا شيء يدعو إلى هذا الموقف ما دام برتوكول الاتفاق متطابقا مع الشرعية الدولية، ومع روح الشراكة التاريخية التي تربط بين الطرفين، وهو ما أدى بالمغرب إلى رفض القرار، وإلى تعليق الاتصال مع الاتحاد الأوربي في 25 فبراير 2016، وترك الوقت للوقت ليستعيد الاتحاد رشده بما يتناغم مع المشترك المغربي الأوروبي.
وكما لو أن هناك قائدا واحدا للأوركسترا، فقد صوت البرلمان الأوروبي، في 17 دجنبر2015، (أسبوعا واحدا فقط بعد قرار المحكمة الأوروبية) على مقترح توسيع صلاحيات البعثة الأممية «المينورسو» لتشمل مراقبة حقوق الإنسان. وكان واضحا أن المقترح مشحون بالأثر السياسي أكثر من الأثر القانوني على اعتبار أن تلك الصلاحيات من اختصاص الهيئة الأممية، ومع ذلك فقد أبان التصويت على المساحات الكبرى التي يشغلها خصوم وحدتنا الترابية في المنتظم الدولي، خاصة صمن منتديات اليسار وروافد المجتمع المدني.
وتكتمل آخر ملفات هذا الجدل المقلق في علاقتنا بالمحيط الدولي من خلال إقدام بان كي مون، الأمين العام للأمم المتحدة، في 5 مارس 2016، بزيارة تندوف، وإدلائه بتصريح يمس بالسيادة المغربية عبر وصف الوضع الراهن بأقاليمنا الجنوبية بـ«الاحتلال». وهو ما يتنافى كليا مع مقررات منظمته التي ظلت دوما تحترم معجما يراعي طبيعة الملف ويراعي حياد المنظمة. الأمر الذي يطرح أكثر من تساؤل حول حقيقة هذه الخطوة غير المتوقعة من أمين عام لا يمكن أن ننتظر منه إلا العمل على تصريف الاختيارات الدولية في الموضوع، وأن يقوم بالمطلوب موضوعيا، أي أن يجري إحصاء المقيمين في تلك مخيمات تندوف، وأن يفتح تحقيقا أمميا في حقيقة المساعدات الإنسانية الدولية التي تقدم للصحراويين انسجاما مع تقارير عدد من المنظمات الدولية التي فضحت مآل تلك المساعدات وأن يدفع في اتجاه حل سياسي متفاوض بشأنه. باستعادة كل تمظهرات المد والجزر كما عاشها المغاربة على امتداد السنوات الماضية، وجوابا عن الأسئلة التي افتتحنا بها هذه الورقة، يتبين أن صناع القرار الخارجي باتجاه بلادنا لا يمكن أن يكونوا قد صدروا فقط عن أهواء السياسة في الغرب، ولا يمكن أن يكون ذلك قد تم وفق بناء منطقي للأسباب والنتائج، وإلا فسنكون إزاء مواقف عبثية معلقة في الهواء. إذ لا يقبل المنطق أن يكون المغرب الذي اكتسح مساحات هامة في آليات التعامل الدولي هو نفسه البلد الذي يتهدد بهذه الآليات.
لقد نجح المغرب في نفس الفترة، موضوع هذه التساؤلات، في أن يعقد مع الاتحاد الأوربي عدة اتفاقات لمكافحة ظاهرة الاتجار بالبشر والهجرة الوافدة من الشرق والجنوب، وذلك بإقامة إجراءات حمائية عبر تحوله من بلد عبور إلى بلد إقامة، مع ما يعنيه ذلك من تكثيف المقاربة الاجتماعية والإنسانية بدل المقاربة الأمنية، ونجح في الوقت نفسه في إسناد الجهد الدولي بخصوص المسألة السورية عقب اندلاع «الربيع العربي». وفي الإطار نفسه احتضنت أرضه، في نونبر 2014، الدورة الثانية للمنتدى العالمي لحقوق الإنسان، وفي دجنبر الماضي، احتضن اتفاق المصالحة مع الأطراف الليبية المتنازعة.
وفي السياق نفسه اختيرت بلادنا لاستضافة الدورة القادمة لقمة المناخ برعاية الأمم المتحدة في نونبر 2016 بمراكش، وهو البلد الذي تم انتقاؤه ليكون شريكا للحلف الأطلسي من خارج حدود هذه المنظمة.
هناك خلل ما في مكان ما. هذا المكان لا يمكن أن يتمثل فقط في ضعف الأداء الدبلوماسي المغربي الذي هو حقيقة قائمة بكل تأكيد. كما لا يمكن أن يكون متمثلا فقط في الدور الفعال للدبلوماسية الجزائرية التي عرفت كيف توظف أطروحتها «الثورية» العتيقة عبر استمرار التواصل مع تنظيمات اليسار الراديكالي في أوربا، وكذلك عبر تسخير عملاء وخونة مغاربة للنيل من السيادة الوطنية. ولأن الأمر كذلك يمكن الذهاب بعيدا في التحليل للتساؤل حول ما إذا كانت هناك استراتيجية ما لتوريط المغرب في مخطط ما. بهذا الخصوص، يذهب بعض المحللين إلى اعتبار التحرشات الغربية المتوالية على بلادنا قد يكون الهدف منها جر المغرب إلى لعب أدوار قذرة بالنيابة عن الغرب. نستحضر بهذا الخصوص معطيين اثنين قد يكون لهما مفعول ما في التجاذب الراهنة.
ـ المعطى الأول يتعلق بخصوص الحرب المنتظرة على داعش داخل التراب الليبي، وهي الفكرة التي ترفضها الجزائر، وتتردد بخصوصها مصر، وتريد أن تتجنبها تونس، ولذلك قد تكون تلك التحرشات تسويغا لجر المغرب إلى ما يريده الغرب عبر دفع بلادنا إلى الانخراط في حرب برية ضد داعش حتى لا يبقى هناك مبرر ما للتراجعات في دول الجوار الليبي.
ـ أما المعطى الثاني فيفيد التشويش على الدور الداعم اللامشروط للمغرب تجاه المملكة العربية السعودية في صراعها مع إيران، وعبر أذرعها في اليمن والبحرين ولبنان... خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار «الطبخة» غير المكتملة التي يهيئها الغرب في المحيط الملتهب المحيط بالفضاء الإيراني السعودي، خاصة بعد توقيع الاتفاق النووي الذي جدد الأحلام الشيعية في المنطقة على خلفية تردي العلاقات بين الدول العربية التي صارت منشغلة بالصراعات البينية أكثر من انشغالها بالصراع التاريخي مع إسرائيل. مهما يكن من احتمالات صواب هذا التحليل أو خطئه، فالمؤكد أن المغرب يوجد اليوم في بؤرة التجاذب الحاد ضمن لعبة الأمم التي لا تعرف الصداقات الثابتة، لأنها تعرف فقط مصالحها الثابتة. ولذلك لا اختيار للمغرب سوى أن يواصل بناءه الديمقراطي عبر مزيد من توسيع فضاء الحريات وإقرار العدالة الاجتماعية وترسيخ التنمية التي تستهدف الإنسان المغربي البسيط وإصلاح مشهدنا الحزبي ليعود إلى سابق عهده في إنتاج النخب السياسية المتشبعة بالدفاع عن المصالح الوطنية ووضع خطة لتقويم أعطاب أدائنا الدبلوماسي. إنه الاختيار الوحيد الذي قد يكلفنا ضرائب جسيمة بحسابات المصالح، لكنه قد يكسبنا نقطا إضافية في مجال استثمار المستقبل، وفرض اسم المغرب في نادي الأمم المتمدنة.
تفاصيل أوفى تطلعون عليها في عدد أسبوعية "الوطن الآن" المتواجد حاليا في الأكشاك
